عندما تتحدث الكاميرا: الإعلام الفلسطيني شاهد وضحية

أمد/ في زمنٍ تتزاحم فيه الروايات وتتنافس القوى الكبرى على احتكار الحقيقة، يشقّ الإعلام الفلسطيني طريقه بشجاعة رغم القيود والحصار، ليكون لسانًا ناطقًا باسم شعب يسعى للحرية والعدالة. لم يعد الإعلام الفلسطيني مجرد ناقل للحدث، بل أصبح أداة نضال ووسيلة لإعادة تشكيل وعي العالم تجاه ما يحدث في فلسطين، وخصوصًا في قطاع غزة.
شهد الإعلام الفلسطيني تطورًا لافتًا، فبعد أن كانت أدواته محدودة التأثير، نجح في توظيف الوسائط الرقمية ليصبح حاضرًا على المسرح الدولي. برزت منصات إعلامية، وصحفيون شباب، ومبادرات فردية استطاعت كسر الحصار ونقل الصورة من قلب الحدث إلى المتلقي العربي والدولي. لقد فُرض هذا الصوت كمرجعية موثوقة في أوقات الأزمات، وبات كثيرون حول العالم يتابعون رواية الفلسطينيين لا من باب التضامن فحسب، بل للبحث عن الحقيقة.
ما يميز الإعلام الفلسطيني هو قدرته على مقاومة الهيمنة الإعلامية الغربية من خلال تقديم رواية بديلة تُظهر الجوانب الإنسانية للواقع الفلسطيني. لم يكتفِ الإعلام بعرض أرقام الضحايا، بل نقل مشاهد الحياة اليومية، لحظات الفقد، وصور الأمل التي تتحدى اليأس. بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت هذه الرسائل أكثر تأثيرًا، وانتشرت بسرعة، وغيّرت آراء كثيرين كانوا يومًا ما بعيدين عن الفهم العميق للقضية.
وفي قلب هذه المواجهة الإعلامية، دفع الصحفيون الفلسطينيون ثمنًا باهظًا لنقل الحقيقة. فقد بلغ عدد الشهداء من الصحفيين، وفقًا لبيانات المكتب الإعلامي الحكومي حتى نهاية عام 2024، نحو 182 صحفيًا وصحفية، كثير منهم سقطوا أثناء تأدية واجبهم المهني في تغطية العدوان الإسرائيلي على غزة. هذا الرقم المفجع لا يعكس فقط حجم التضحيات، بل يكشف عن طبيعة الاستهداف المنهجي للعاملين في الميدان الإعلامي، أولئك الذين يمثلون خطرًا على الرواية المسيطرة عالميًا. لم يعد الصحفي الفلسطيني مجرد ناقل للحدث، بل أصبح شاهدًا وشهيدًا، وأحد ركائز الذاكرة الفلسطينية الحية. هذا الاستهداف لا يمكن قراءته فقط كأثر جانبي للصراع، بل هو محاولة لإخماد صوتٍ يمثل سلاحًا لا يُستهان به في معركة الوعي.
ورغم كل ما تحقق، لا تزال التحديات قائمة. ضعف الإمكانيات، وانحياز المنصات العالمية، والرقابة الرقمية المشددة كلها عوامل تعيق عمل الإعلام الفلسطيني. كثير من الحسابات تُغلق، والمحتوى يُحذف، ويُمنع الوصول إليه بذريعة مخالفة المعايير، بينما يُترك المحتوى التحريضي المناهض للفلسطينيين متاحًا على ذات المنصات. هذه التحديات، بدلًا من أن تُضعف العزائم، دفعت إلى ابتكار أشكال جديدة من النشر والمقاومة الرقمية، وأنتجت جيلاً من الصحفيين الذين يجمعون بين الحس الإنساني، والمهارة المهنية، والوعي السياسي.
ورغم تلك القيود، هناك قصص نجاح تلهم. صحفيون فلسطينيون أصبحوا رموزًا في الإعلام العالمي، وأصواتًا تُستضاف في كبرى القنوات والصحف. تغطيات من غزة انتشرت دوليًا وأجبرت وسائل إعلام غربية على مراجعة لغتها وطرح تساؤلاتها. كذلك، نجحت مؤسسات إعلامية فلسطينية في مدّ جسور تعاون مع منظمات حقوقية دولية، مما عزّز من مصداقيتها ووصولها إلى جمهور أوسع.
في النهاية، يمكن القول إن الإعلام الفلسطيني لا يؤدي فقط مهمة نقل الأخبار، بل يخوض معركةً على الوعي، يرفع فيها الكلمة والصورة في وجه السلاح والإنكار. وفي وقتٍ أصبحت فيه الكاميرا سلاحًا، والتغريدة موقفًا، والمقالة شهادةً على الذاكرة، يبقى الإعلام الفلسطيني ضرورة أخلاقية، وصوتًا حيًّا لشعب لا يريد أن يُنسى أو يُسكت.