أسطورة الحماية الكاذبة… من قورش إلى قم

أمد/ في زحمة الشعارات المدوية، وتحت دخان “الممانعة” الكثيف، يقف المتابع العربي حائرًا أمام سردية إيرانية تُسوّق منذ الثورة الإسلامية عام 1979 بأنها حاملة لواء فلسطين، وسيف القدس، وخصم إسرائيل الأزلي. لكنّ التاريخ، لا الإعلام، هو من يشهد. والتاريخ لا تُخدعه الرايات، ولا تُضلله البيانات، ولا يُغيّره أنين الميكروفونات من طهران إلى بيروت.
إنّ علاقة الفُرس باليهود ليست بنت اليوم، ولا وليدة مصالح آنية. تعود جذورها إلى ألفين وخمسمئة عام، حين أصدر قورش الكبير، مؤسس الإمبراطورية الفارسية، قراره الشهير بالسماح لليهود بالعودة من سبي بابل إلى القدس وبناء الهيكل، كما ورد في سفر عزرا. هذه الواقعة لم تكن مجرّد حدث سياسي، بل لحظة تأسيس لعلاقة عميقة، قائمة على التفاهم والمصالح لا على العقيدة أو الاصطفاف الإيماني.
ومنذ تلك اللحظة، بقيت العلاقة بين الطرفين، رغم تحوّلات الدين والزمان، قائمة على صيغة “التقاطعات العميقة”، وإن اختلفت الألبسة السياسية.
إيران الشاه… بوابة إسرائيل إلى نفط الخليج
في القرن العشرين، كانت إيران الشاه أحد أوثق حلفاء إسرائيل في المنطقة. لم تكن علاقاتهما خفية: سفارات، تعاون استخباري عبر “الموساد” و”السافاك”، وصفقات نفط تمتد من الخليج إلى ميناء إيلات. خلال حرب 1948، كانت إيران تكتفي بالمراقبة. وحين وقعت نكسة 1967، كانت بواخر النفط الإيراني تتدفق لإسرائيل في أوج الحرب. لم تطلق إيران رصاصة واحدة دفاعًا عن القدس أو غزة أو سيناء، بل كانت تملأ خزان دبابات العدو.
الثورة الإسلامية… تغيّرت الشعارات لا السياسات
ظنّ العرب، أو تظاهروا بالظن، أن ثورة الخميني ستقلب الموازين. قيل لنا إنها ثورة المستضعفين، وإن إسرائيل “غدة سرطانية”. رفعت اللافتات، وعلّقت صور القدس فوق المنابر، وحُمّلت صواريخ “شهاب” برسائل العداء… لكن بقيت الرصاصة الإيرانية، كما كانت أيام الشاه، ساكنة في مخزنها.
في حرب 1982 واجتياح بيروت، كانت إيران غارقة في حرب استنزاف مع العراق. صبرا وشاتيلا ذُبِح فيها المئات، فلم تحرّك طهران ساكنًا. وفي كل حرب إسرائيلية على غزة (2009، 2012، 2014، 2021، 2023)، اكتفت إيران بالتصريحات النارية، والدعم غير المباشر لبعض الفصائل، بينما كان ردّها المباشر على إسرائيل صفراً صريحًا.
من “محور المقاومة” إلى “محور النفاق”
عقب هجوم 7 تشرين 2023، الذي زلزل إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، ظنّ كثيرون أن إيران ستنتهز الفرصة لفتح جبهة الشمال، أو على الأقل كسر قاعدة الاشتباك التاريخية. لكنّ طهران اكتفت بالتفرج، ثم التفاوض، ثم تسريب رسائل عبر قنوات خلفية تقول فيها: لسنا طرفًا مباشرًا في ما يجري. والأدهى، أن طهران لم تتحرك إلا بعد أن استهدفت إسرائيل مستشاريها وقادتها في دمشق وبغداد… عندها فقط شعرت بالإهانة، لا من أجل غزة، بل من أجل هيبتها.
واليوم، مع تصاعد الحديث عن اغتيالات محتملة لقادة حزب الله، ومع استعداد إسرائيلي لحرب شاملة، تتصرف إيران كما لو أنها في شراكة أمنية ضمنية مع واشنطن، لا في محور مقاومة ضد “الشيطان الأكبر”.
هل تدافع إيران عن فلسطين؟
السؤال لا يحتاج جوابًا بل مراجعة. هل دافعت إيران يومًا عن فلسطين فعلاً؟ هل قصفت تل أبيب؟ هل فتحت جبهة؟ هل حمَت طفلًا في غزة؟ أم أنها استخدمت فلسطين منصة، والقدس منصة، والمقاومة منصة، في حربها الكبرى لبناء نفوذ في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟
المقاومة ليست شِعرًا يُلقى في الضاحية، ولا شعارًا يُرسم على الجدران في طهران. هي فعل، وخيار، وكلفة. وإيران لم تدفع شيئًا من كلفتها الفعلية. بل صدّرت “الدماء العربية” لتكون رأس الحربة في صراع محسوب، لا يُغضب واشنطن ولا يستفز تل أبيب.
فلسطين لا تحتاج إلى تجّار ثورات
إيران ليست حامية لفلسطين، بل راكبة على ظهرها. ومن قورش إلى قم، مرّت العلاقة مع اليهود بخيوط المصالح لا العقيدة. وبينما ينتظر أهل غزة من يواسيهم لا من يساوم بهم، تمارس طهران هوايتها الأزلية: إدارة الحرب من بعيد… بالكلام، لا بالكلاشنيكوف.
فلسطين لا تحتاج إلى “أصدقاء مزيّفين”، بل إلى من يضع يده على الزناد حين يُذبح الأطفال، لا حين يُهان الجنرالات.