نظرية تداخل المجالات بين الواقعية والرومانسية في السياسة

نظرية تداخل المجالات بين الواقعية والرومانسية في السياسة

أمد/ لم يُشّكل السابع من أكتوبر كحدث فاصل في تاريخ الشرق الأوسط بكامله؛ مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تحدي وجودي لإسرائيل فقط، بعد أن نقل المعركة إلى داخل العمق الاستراتيجي الإسرائيلي، وزعزع نظرية الأمن الإسرائيلية وضرب الترتيبات الأمنية القائمة على التحصن خلف أسوار واقية، بل شكل في نفس الوقت تحدي آخر “للمحور الإيراني” أو ما يعرف بمحور “المقاومة أو الممانعة “!
لقد مثل السابع أول اختبار حقيقي لما يعرف بنظرية وحدة الساحات، وهي النظرية التي عمل المحور على إنشائها خلال سنوات توسعه وتمدده، والتي تقوم على أساس أن أي مواجهة مع ساحة أو فصيل من فصائل هذا المحور يستدعي تدخل الساحات الأخرى لتقديم دعم مباشر له، في صراعه الداخلي أو الخارجي، وهو ما تحقق بالفعل في سوريا من دعم حزب الله للنظام السوري، ودعم إيران لحركة حماس بعد سيطرتها على غزة، ودعم جماعة الحوثي في الصراع الداخلي اليمني، أو في الصراع مع دول الخليج.
لكن بعد السابع من أكتوبر لم يعمل المحور وفق هذه النظرية بكل جّد، واكتفى بفتح جبهات مساندة لغزة، سواء عبر جبهة حزب الله في الشمال، أو جبهة سوريا والعراق من الشرق، أو جبهة اليمن من الجنوب، التي حاول من خلالها المحور التأثير على الملاحة والتجارة الدولية، مستغلا بعد المسافة، وتردد إدارة بايدن في التدخل العسكري، واكتفت طهران بإدارة المعركة مع إسرائيل عن بعد، تاركة للأذرع القيام بالمهمة!
حدث ذلك رغم أن العلاقة بينهم كقوى إقليمية كبرى قد انتقلت من الصراع بالوكالة إلى الصدام المباشر، ففي مايو وأكتوبر من العام الماضي حدثت أول مواجهة عسكرية مباشرة بين البلدين، على أثر اغتيال (إسماعيل هنية في طهران، وقصف القنصلية الإيرانية في دمشق، فقد تبادل الطرفان الضربات الجوية معلنين انتقال الصراع إلى المواجهة العسكرية المباشرة، عقب سنوات من العداء في الخفاء على أثر البرنامج النووي والتمدد الإيراني في الشرق الأوسط.
عقب انهيار نظام صدام حسين والخروج الجزئي للولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط، والتركيز على منطقة جنوب شرق آسيا وهي الاستراتيجية الأميركية التي اتّبعتها إدارة الرئيس باراك أوباما عام 2012، اتسع النفوذ الإيراني في المنطقة، منشئة ما يعرف (بالهلال الشيعي أو محور الممانعة) بعد أن سيطرت على عدة دول عربية، حتى قال ذات يوم مستشار الرئيس أحمد نجاد ” نمتلك القرار السياسي في خمس عواصم عربية ” !
هذا التمدد الإيراني لم يشكل تهديد للأمن القومي العربي والمصالح الأميركية والغربية في المنطقة فقط، بل ساهم في رفع مستوى تحشيد اللوبي اليهود ضد إيران في الولايات المتحدة الأمريكية، مما جعل إدارة ترامب تنسحب من الاتفاق النووي مع إيران في العام 2018، وتعيد تشديد العقوبات الأميركية على طهران، ووضع إيران كنظام ومشروع نووي بشكل دائم على أجندة التيارات اليمنية الموالية لإسرائيل ليس فقط في أمريكا بل في كامل أوروبا الغربية، كما حدث مع نظام الرئيس صدام حسين في آواخر عهده.
في مقابل استعدادات إسرائيل على كافة المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية للانتقال من مرحلة العداء بالوكالة إلى مرحلة الصدام المباشر كحتمية تاريخية وسياسية وعسكرية واقتصادية، لم تعمل طهران لهذه المرحلة كما يجب، واكتفت بإطلاق الشعارات الرنانة وانتهاج استراتيجية المشاغلة، التي كسرت قواعدها السابع من أكتوبر، لذلك جاءت الضربة الإسرائيلية الأولى موجعة، أفقدت طهران القدرة على استيعاب الأمر إلا بعد عدة أيام.
الصدام بين قوى إقليمية صاعدة وقوى إقليمية مهيمنة كان صدام حتمي، ليس له علاقة فقط بالبرنامج النووي الإيراني، الذي استخدم كذريعة، وإنما له علاقة برغبة إسرائيل الاستفادة من حالة السيولة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط لتغير وجه المنطقة واعادة هندسة الوضع الجيوسياسي، لذلك ما يحدث وسوف يحدث خلال الأسابيع المقبلة، وهو صراع من أجل الهيمنة بين قوى إقليمية حول النفوذ والمصالح الاقتصادية والسياسية حول ما تبقى من موارد المنطقة.
قبيل السابع من أكتوبر بأيام قليلة كانت هناك ندوة فكرية في (مركز اتجاهات) في غزة – لمناقشة فكرة أو استراتيجية “وحدة الساحات ” جمعت الندوة مفكرين وكتاب وباحثين من تيارات سياسية وفكرية متعددة، عندما وصل الدور علي في الحديث، وبعد ما سمعت ما سمعت من الزملاء عن أهمية استراتيجية وحدة الساحات، قلت لهم، ” بالنسبة إلي استراتيجية وحدة الساحات أو وحدة الجبهات هو شعار رومانسي (طوباوي) لا يمكن أن يتحقق ” !
وقع كلامي على الحضور من المنتميين للتيار الإسلامي واليساري كالصاعقة، وهاج الجميع معترضين على هذا التوصيف، طالبت منهم افساح المجال لتكملة الفكرة والمداخلة، حتى أشرح لهم ماذا أقصد بالشعار الرومانسي في الفكر السياسي.
بعد أن حلً الهدوء قلت لهم: هناك صعوبة بالغة في تنفيذ شعار أو استراتيجية وحدة الساحات أو الجبهات على المستوي المحلي الفلسطيني وعلى المستوى الإقليمي، بعد ما نجح الاحتلال في سياسة التجزئة والفصل، لقد أصبحت مطالب وأولويات أهل الضفة الغربية مختلفة تمامًا عن أولويات ومطالب غزة، كما أن مطالب وأولويات سكان الداخل ( فلسطينيين 48 ) متخلفة عن غزة والضفة الغربية أيضا، كما أن أولويات وحسابات كل جبهة من جبهات المحور مختلفة عن باقي الجبهات ، وبالتالي يصعب تحقق هذا المبدأ، إلا في حدوده الدنيا ، وهو ما حصل الضبط !
لحسابات داخلية لم تندفع طهران للمواجهة مع إسرائيل مع اندلاع المواجهة بعد السابع من أكتوبر، ولم تشارك بقوة على جريمة اغتيال قائد حركة حماس السيد (إسماعيل هنية) الذي اغتيال في طهران، ولم تقدم دعم حقيقي لحليفها المركزي في المنطقة (حزب الله) خلال المواجهة مع الاحتلال، رأت إيران أن التضحية بالأذرع أقل ضرر من الاندفاع للمواجهة المباشرة والتضحية بالمركز، حث اكتفت بالاستمرار في حرب الوكالة مع إسرائيل رغم تغيير قواعد اللعبة!
لكن حسابات إسرائيل بعد السابع من أكتوبر أصبحت مختلفة أيضًا، فهي بات تدرك أنها أمامها فرصة تاريخية للتخلص من هذا المحور أو تفكيكه بشل نهائي، من خلال الاجهاز على رأس هرم هذا المحور، وعدم إعطائها الفرصة لإعادة ترتيب وتنظيم صفوفها من جديد، لذلك اندفعت بكل قوة باتجاه فتح جبهة عسكرية مع إيران في محاولة لتدمير البرنامج النووي والإيراني، والقضاء على نظامها السياسي، بعد أن استطاع تقويض أذرعها واحدة تلو الأخرى، في محاولة لإعادة هندسة الشرق الأوسط من جديد.