لأنّي أغني…!

أمد/ في محاكاةٍ لقصيدة الشاعر الكبير محمود درويش:
«مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مهملة…»
وفي ظلّ اشتعالِ الحروب المتزامنة على غزة والضفة والقدس، وما اتّسع منها ليشمل لبنان، واليمن، وطهران…
تنبعثُ القصيدة من رماد هذا الخراب الممتدّ، لتعيد للغناء معناه المقاوم، وللشاعر دوره في زمن المحو والخذلان.
هذا النصّ ليس مرثيةً، بل نشيدٌ عنيدٌ في وجه التواطؤ، يشهرُ الكلمةَ سلاحًا حين تعجز المدافعُ عن قول الحقيقة.
النص:
مساءٌ على وطنٍ يتوزّعُ بين الجبهاتْ
وعيناكِ مطفأتانْ،
كأنّ السنينَ التي عبرتْ
لم تكن غير طيفٍ من النكباتْ
أعودُ ثلاثينَ خريفًا
وخمسَ حروبٍ
ولا شيء غيرُ الترابْ
يضمُّ الشهداءْ
ولا شيء غيرُ الحنينْ
يردُّ الغيابْ
***
يُغنّي المغنّي
عن الطفلِ في كَفْرِ قاسمْ
عن الزيتِ والزعترِ المشتعلْ
عن امرأةٍ في الخليلْ
تُعدُّ العشاءَ لصمتِ البنادقِ
عن شامةٍ في الجليلْ
تدلُّ العيونَ على القدسِ إن ضلّت الطرقاتْ
عن غيمٍ يُهاجرُ من غزّةَ للضاحيةْ
ومن الضاحيةِ للصعدةِ الباكيةْ
عن صوتِ المؤذنِ في طهرانْ
يعلو على القصفِ والأغنياتْ
***
ويستجوبونهُ:
لماذا تغنّي؟
فيَردُّ بلا قلقٍ:
“لأنّي إذا ما سكتُّ
ستموتُ الخريطةُ في أفئدةِ الناسْ
لأنّي إذا ما بكيتُ،
توضّأ بالدمعِ هذا الترابْ”
***
فتّشوا حنجرتَهْ
فوجدوا صدى بيروتْ
ورائحةَ البحرِ في يافا
وأنّةَ صفدْ
وجدوا صورَ المخيّمِ
مُعلّقةً في الحبالِ القديمةِ
كأسماءِ من غابوا بلا قبورْ
***
فتّشوا صدرَهْ
فلم يجدوا غير خيمةْ
وفيها البلادُ التي لا تموتْ
وفيها الوليدُ الذي سوف يأتي
وفيها النشيدُ الذي لا يُقيَّدْ
***
فتّشوا قلبهْ
فوجدوا أمَّهْ
تحملُ مفتاحَها كأنّه آيةْ
وتُرضّعُ الطفلَ نشيدَ الرجوعْ
***
فتّشوا صمتَهُ،
فكان يدوّي
كأنّه المئذنةْ
تقولُ: هنا كان شعبٌ يُصلّي
فمرُّوا عليهِ
فأشعلَ أرضًا وراءَهمُ
واشتعلْ
***
ثم عادوا إلى سجنهم
فوجدوهُ أضيقَ منهمْ
وعاد إلى حلمهِ
فوجَدَهُ أوسعَ من كلِّ هذا الزمانْ!
…………………………………….
د. عبد الرحيم جاموس
17 يونيو / حزيران 2025
[email protected]
رائعة درويش
مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مُهملهْ
وعيناك نائمتانْ
أعودُ ثلاثين عاماً
وخمسَ حروب
وأشهدُ أنّ الزمانْ
يخبّئ لي سنبلهْ
يغنّي المغنّي
عن النار والغرباء
وكان المساءُ مساء
وكان المغنّي يُغَنّي
ويستجوبونه:
لماذا تغنّي؟
يردُّ عليهم:
لأنّي أغَنّي
وقد فتّشوا صدرَهُ
فلم يجدوا غير قلبهْ
وقد فتّشوا قلبَهْ
فلم يجدوا غير شعبهْ
وقد فتشوا صوتَهُ
فلم يجدوا غير حزنهْ
وقد فتّشوا حزنَهُ
فلم يجدوا غير سجنهْ
وقد فتَّشوا سجنَهُ
فلم يجدوا غيرهم في القيود
#محمود_درويش
رحم الله فقيدنا وشاعرنا الكبير محمود درويش