مأساة غزة: الحرب وتأثيراتها الاقتصادية المدمرة

أمد/ تُنهك الحرب قطاع غزة، لا لكونها حصدت آلاف الأرواح بين شهيد ومفقود ومصاب، أو خلّفت دمارًا ماديًا هائلًا فحسب، بل لأنها أصبحت مسرحًا لانهيار اقتصادي غير مسبوق، فهذا الانهيار طال كل مقومات الحياة الكريمة لسكان القطاع المحاصر منذ أكثر من 18 عامًا، لم تكن هذه الحرب مجرد جولة عدوان، بل كانت ضربات قاصمة على الاقتصاد الفلسطيني الذي يُعاني أصلًا منذ عقودٍ من الحصار والقيود، فلقد دفعت الحرب قطاع غزة بأكمله إلى هاوية سحيقة من الفقر والبطالة، وشبح المجاعة وسوء التغذية، وتفشي الأوبئة والأمراض، وشهدت غزة انهيارًا غير مسبوق في الصناعة والتجارة، وتفاقمت الخسائر الاقتصادية ضمن تدمير ممنهج للبنية التحتية والقطاعات الإنتاجية، متجاوزةً كل التقديرات والأرقام المألوفة، حيث تشير التقديرات الأولية إلى أن الدمار لحق بنحو 80% من المنشآت الاقتصادية، بما في ذلك المصانع والورش والمتاجر والمزارع، مما أدى إلى توقف عجلة الإنتاج بشكل شبه كامل؛ كما دُمرت البنية التحتية الحيوية، من طرق وشبكات مياه وكهرباء وصرف صحي على نطاق واسع، وهو ما يُقدر بعشرات المليارات من الدولارات، ولم يقتصر هذا التدمير على الممتلكات العامة والخاصة، بل شمل أيضًا الأراضي الزراعية الخصبة ومرافق الصيد الحيوية، ما يهدد الأمن الغذائي لسنوات قادمة.
كانت غزة قبل الحرب تُعاني من أعلى نسب البطالة في العالم، ولكن هذه النسبة قفزت إلى مستويات غير مسبوقة بعد السابع من أكتوبر، لتزيد عن 85% وقد فقد مئات الآلاف من العمال مصادر دخلهم الوحيد بسبب النزوح والتهجير القسري وتدمير المنشآت أو إغلاق أعمالهم التجارية وورش عملهم، ومع توقف النشاط الاقتصادي، أصبحت الغالبية العظمى من سكان القطاع، والبالغ عددهم أكثر من 2.3 مليون نسمة، يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات الإنسانية العينية والنقدية.
تُؤكد هذه الأرقام المخيفة تحذيرات التي أطلقتها الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بأن قطاع غزة بات على شفا المجاعة، فأكثر من 90% من الأسر تُعاني من سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي الحاد، بسبب ندرة الأغذية الأساسية وترتفع أسعارها بشكل جنوني، فبعض السلع زادت أسعارها عشرات الأضعاف، لتصبح بعيدة المنال عن معظم السكان، ونسبة الفقر، التي كانت مرتفعة أصلاً، تجاوزت اليوم كل التوقعات، حيث يعيش ما يقرب من 96% من السكان تحت خط الفقر، وفقًا لبعض التقديرات. هذا يعني أن معظم سكان غزة يكافحون من أجل تأمين أبسط الاحتياجات الأساسية، وهو ما يفسر الاندفاع نحو توزيع المساعدات أو أمـكن وصول الشاحنات التي تنقل المساعدات، وما يتبعه من ارتفاع في عدد الشهداء والمصابين في تلك المناطق التي يتجه نحوها عشرات الآلاف من المحتاجين والجوعى شبه يوميا…
لم تزد الحرب الوضع الاقتصادي سوءًا فحسب، بل شدّت الخناق على الحصار المفروض بإغلاق المعابر أو توقف عملها بشكل متقطع ومحدود للغاية، مما أدى إلى توقف شبه كامل لحركة التجارة والتنقل، فالتجار ورجال الأعمال غير قادرين على استيراد المواد الخام اللازمة للصناعة أو البضائع الأساسية، وأي إمكانية للتصدير تلاشت وتبخرت مع شح المواد الخام والأساسية (مثل الكهرباء والوقود والأدوية والمواد الغذائية)، وهذا أيضًا سببًا في ارتفاع أسعارها بشكل فاحش، مما فاقم معاناة الناس وأنهك قدرتهم الشرائية المتضائلة، وقد أدى ذلك إلى انهيار القطاعات الحيوية؛ فكل ركيزة من ركائز الاقتصاد الغزي تضررت بشكل لا يُحصى ولا يمكن إصلاحه على المدى القصير، ومنها:
• قطاع الزراعة والصيد البحري حيث تعرضت آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية للتجريف والتدمير، سواء بشكل مباشر أو بسبب القصف العسكري بأسلحة مدمرة للتربة، مما قضى على المحاصيل وأشجار الزيتون والفواكه، وفقد المزارعون مصادر المياه اللازمة للري ومعداتهم الزراعية، مما يجعل استئناف الزراعة مهمة شبه مستحيلة في المستقبل القريب، كما دُمرت أعداد كبيرة من قوارب الصيد ومعداته، وحُرم آلاف الصيادين من مصدر دخلهم الوحيد بسبب المنع والقيود على مناطق الصيد، وفقدت غزة بذلك أحد مصادر الغذاء للكثيرين من الناس.
• قطاع الصناعة فقد دُمر شبه بالكامل وقد استكملت الحرب تدمير باقي المصانع القليلة التي كانت تعمل في غزة وتوفر الآلاف من فرص العمل، فمعظمها إما دُمر بالكامل أو تضرر بشكل كبير، أو توقف عن العمل بسبب نقص المواد الخام والطاقة، وهذا الانهيار يعني أن فرص العمل المحدودة أصلاً قد تلاشت بالكامل، وأصبح عمالها ومشغلوها يعتمدون على المعونات والمساعدات الإنسانية، التي بالكاد تغطي نسبًا لا تزيد عن 10% من الاحتياج في غزة في ظل هذا الواقع المرير.
مع استمرار العدوان وهذه المستجدات والمتغيرات برز دور التدخلات الإغاثية الطارئة كشريان حياة وحيد لمئات الآلاف من أهالي غزة، عبر المؤسسات والمنظمات الأممية والدولية والعربية، مثل الأونروا، برنامج الغذاء العالمي، والصليب الأحمر…، لقد بذل معظمها جهودًا مضنية لإيصال المساعدات الأساسية من غذاء وماء ودواء ومأوى مؤقتة، رغم ما يشوب بعضها من تجاوزات وسوء إدارة وفساد. ومع ذلك، فإن تأثير هذه المساعدات، رغم حيويته، يبقى محدودًا للغاية ومؤقتًا؛ فالتحديات اللوجستية الهائلة، وقيود الوصول، ونقص الوقود، وتدمير الطرق، ونزوح الناس في مناطق لا تزيد عن 24% من مساحة قطاع غزة إلى مراكز إيواء ومخيمات لا ترتقي لأدنى مقومات الحياة، كل هذه العوامل ساهمت في تزايد الاحتياجات بوتيرة أسرع من الاستجابة، وحدّت من فاعلية هذه التدخلات، فالمساعدات الإغاثية، بطبيعتها، لا تستطيع أن تحل محل الاقتصاد المنتج الذي يوفر سبل العيش المستدامة، وقد وُصفت بأنها أشبه بمسكن للألم لا علاج للمرض في غزة، والمرض هو تدمير البنية الاقتصادية بالكامل، وما تبعه من مشاكل في السيولة وتهالك النقود، وغلاء الأسعار، وظاهرة “التكييش” بنسبة وصلت إلى 45% من قيمة المبلغ، هذا الواقع أوجد تحديات ومصاعب ومشاكل بسبب تداعيات الحرب التي تلقي بظلالها على المستقبل الاقتصادي لغزة، مما يجعل أي محاولة للتعافي مهمة شاقة للغاية، تتطلب استراتيجيات متعددة الأبعاد وجهودًا من الجميع وعلى كل المستويات.
الرؤية للخروج من الأزمة نحو غزة قابلة للحياة:
إن حجم الكارثة في غزة يتطلب أكثر من مجرد إغاثة عاجلة؛ إنه يستدعي رؤية شاملة ومستدامة للتعافي والخروج من هذا الواقع المدمر، وهذه الرؤية يجب أن ترتكز على محاور أساسية لضمان مستقبل كريم ومستقر لأهالي القطاع:
1. وقف العدوان ورفع الحصار الشامل والفوري، فلا يمكن لأي خطة تعافٍ أن تبدأ أو تنجح دون وقف فوري للحرب وإنهاء المقتلة والتدمير، وإزالة فورية وكاملة للحصار المفروض على القطاع، فيجب أن يشمل ذلك السماح بدخول جميع أنواع السلع والمواد الأساسية، بما في ذلك مواد البناء التي لا تزال تُصنف كمواد “ذات استخدام مزدوج”، دون قيود أو شروط، لتمكين إعادة الإعمار الفوري.
2. يجب وضع خطة دولية عاجلة وطموحة وشاملة لإعادة إعمار غزة، لا تقتصر على المنازل والبنية التحتية المدمرة فحسب، بل تتعداها لتشمل إعادة بناء الإنسان، وإعادة تأهيل وتطوير القطاعات الإنتاجية المدمرة كالمصانع وورش العمل والمزارع وموانئ الصيد. يجب أن تدعم هذه الخطة بتمويل دولي سخي والتزام طويل الأمد يضمن التنفيذ الفعال والشفاف.
3. تنشيط الاقتصاد المحلي ودعم القطاع الخاص فهو يمثل العمود الفقري لأي عملية تعافٍ اقتصادي، ويتطلب ذلك تقديم حزم دعم مالي عاجلة وقروض ميسرة للشركات الصغيرة والمتوسطة التي دمرت أو تضررت، مع توفير البيئة اللازمة لعودة نشاطها وتوفير فرص العمل. يجب تسهيل وصول المواد الخام والطاقة اللازمة لإعادة تشغيل عجلة الإنتاج.
4. برامج طوارئ لخلق فرص العمل وتخفيف البطالة لمواجهة مستويات البطالة غير المسبوقة، ويجب إطلاق برامج طوارئ واسعة النطاق لخلق فرص عمل مؤقت متنوعة على أن تركز هذه البرامج على مشاريع إعادة الإعمار وإزالة الأنقاض وإصلاح البنية التحتية، مما يوفر دخلًا فوريًا للآلاف ويساهم في الوقت نفسه في جهود التعافي الأساسية.
5. تنمية القدرات البشرية وتأهيل العمال، فمع التدمير الذي لحق بالعديد من القطاعات والتغيرات في سوق العمل، يحتاج العمال في غزة إلى برامج إعادة تأهيل وتدريب مكثفة على مهارات جديدة تتناسب مع احتياجات مرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار، وتلبي متطلبات الاقتصاد الجديد الذي سيبرز.
6. تأمين الوصول الكامل إلى الموارد الطبيعية، فيجب ضمان وصول الفلسطينيين في غزة إلى مواردهم الطبيعية، مثل مياههم الإقليمية للصيد ومصادر الطاقة، دون قيود، لتمكينهم من استغلال هذه الموارد في بناء اقتصادهم وتحقيق اكتفائهم الذاتي.
7. حوكمة فعالة وشفافية في جهود الإعمار، فتجنب أي عوائق سياسية وضمان الفعالية، يجب أن تتولى الحكومة الفلسطينية، بالتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني والهيئات الدولية الموثوقة، مسؤولية العمل والإشراف الكامل على جهود إعادة الإعمار والمساعدات الاقتصادية، مع الالتزام بأقصى درجات الشفافية والمساءلة.
أخيرا: إن الحديث عن الواقع الاقتصادي والتعافي في قطاع غزة يبدو أقرب إلى المستحيل في ظل الوضع الراهن واستمرار الحرب وتداعياتها، فحجم الدمار يفوق قدرة أي دولة على التعافي الذاتي، واستمرار الحصار والقيود يمنع أي جهود لإعادة الإعمار؛ بالإضافة لما يواجه قطاع غزة من تحديات هائلة تتمثل في نزوح المتكرر لأكثر من 85% من سكانه، وانهيار شامل للخدمات الأساسية، وبنية تحتية مدمرة بالكامل، لم تعد غزة تُعاني من اقتصاد هش فحسب، بل من اقتصاد مدمر بالكامل، ومجتمع يُعاني خليطًا مركبًا من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، التي تهدد السلم الأهلي والاستقرار، وإن المشهد الحالي من ظواهر ومشاكل اجتماعية ونهب وسرقات وعنف مركب هو نتيجة مباشرة للحرب والقيود المستمرة، التي حولت قطاع غزة إلى منطقة منكوبة اقتصاديًا وإنسانيًا. لذا، يتطلب هذا الوضع المأساوي تعاونا فلسطينيا، وتدخلًا دوليًا فوريًا وفعالًا، ليس فقط لتوفير المساعدات الإنسانية العاجلة، بل للضغط من أجل إنهاء الحرب والحصار بشكل كامل، والسماح بإعادة الإعمار الشامل، والعمل على إيجاد حل سياسي يضمن للفلسطينيين في غزة الحق في حياة كريمة ومستقبل اقتصادي مستدام.