من الصداقة المكتومة إلى العداوة الواضحة

من الصداقة المكتومة إلى العداوة الواضحة

أمد/ يثار في أوساط بعض التيارات الداعمة لجمهورية الملالي الإيرانية في اللحظة السياسية الراهنة وبعد اشتعال فتيل الحرب المجهولة الزمن ومدى حدودها بين إسرائيل النازية وإيران الفارسية المسكونة بتوسيع امبراطوريتها في إقليم الشرق الأوسط الكبير، وخاصة في الوطن العربي، السؤال التالي لخصومهم، على أي أساس كنتم “تدعون” أن كل من إيران وإسرائيل حلفاء؟ وأين هو هذا التحالف الآن؟ وهل كان الخطاب الإيراني السياسي والإعلامي يشي بذلك يوما على الأقل بعد الثورة الإسلامية عام 1979، أو حتى الخطاب الإسرائيلي تجاه إيران؟ وأليست الحرب التي بدأتها إسرائيل فجر الجمعة الماضي تدحض كل “إسقاطاتكم الرغبوية”؟
مؤكد الإجابة على الأسئلة المطروحة، لا تحمل في طياتها نكئً للجراح الإيرانية، ولا شماتة، إنما قراءة موضوعية لسياق تطور العلاقات الثنائية بين البلدين، اللذين ربطتهما مصالح مشتركة وبرعاية الولايات المتحدة الأميركية لتقاسم النفوذ في الاقليم وبالتعاون مع القطب التركي الثالث، وعلى حساب القطب العربي، والقوى الضعيفة المحاذية لحدود كل من بلاد فارس والعثمانيين وآسيا الوسطى. ومن أبرز وأهم البديهيات والأسس الناظمة للعلاقات بين الدول، التي رسختها تجربة الحقب التاريخية السابقة، وكرستها مبادئ العلوم السياسية، هي: أولا لا صداقات ولا عداوات دائمة بين الدول؛ ثانيا مصالح الدول القومية تعلو على كل اعتبار، وهي التي تحدد بوصلة العلاقات بين الدول؛ ثالثا عدو اليوم، حليف الغد والعكس صحيح؛ رابعا تاريخ العلاقات بين الدول لا يسير بخط مستقيم، بل بطريق متعرج، وفيه صعود وهبوط؛ خامسا طبيعة الأنظمة السياسية في البلدان المختلفة تؤثر على شكل ومحتوى العلاقات الثنائية بين الدول.
ومن يعود لعلاقات بلاد فارس من زمن الملك قورش مع اتباع الديانة اليهودية الذين سباهم نبوخذ نصر في 570 قبل الميلاد لبلاده بابل، يدرك ان العلاقات إيجابية، كونه قام بتحريرهم من السبي، وإعادتهم الى بلاد كنعان، حسب الاساطير. لذا وضعت دولة إسرائيل صورة قورش على أحد وحدات العملة الإسرائيلية. وحافظت إسرائيل بعد تأسيسها على علاقات قوية مع حكم الشاه، وواصلت ذات العلاقة مع حكم شيوخ الملالي، ولكن بقيت دون إشهار وتعميد. لا سيما وأن حكم المرشد الخميني أراد ان يستخدم ذريعة العداء لإسرائيل والشيطان الأكبر الأميركي، كسلاح لتعزيز نفوذه في أوساط العرب خصوصا، بالتلازم مع رفع شعار “دعم المقاومة” الفلسطينية والعربية بهدف استقطاب القوى الدينية والسياسية وعامة الشعوب العربية لجانبها، ولتحريضها على الأنظمة العربية، وبالترابط مع ما تقدم، رفعت أيضا شعار “دعم المستضعفين في العالم” ضد قوى القهر والاستعمار، ووجه الشعار الاخر، تصدير الثورة الفارسية لدول العالم العربي والاقليم وحيثما استطاعت الوصول لشواطئ الدول الاسلامية.
ومع ان قيادة الثورة الفلسطينية ممثلة بشخص الزعيم الراحل ياسر عرفات اكتشفت الخلفية الحقيقية للقيادة الإيرانية الجديدة منذ اللحظة الأولى لتوليها مهامها عام 1979، بعد زيارته للعاصمة طهران ولقائه مع قائد الثورة الإمام الخميني، الذي طلب من أبو عمار تحويل الثورة الفلسطينية ذات الطابع الوطني والقومي الى ثورة دينية تابعة لقيادته، وبهدف تصدير الثورة، الامر الذي رفضه قائد الثورة. لكن لم يكشف عن طابع العلاقة التحالفية بين إيران وإسرائيل الا بعد فضيحة “إيران غيت” التي عقدت بين إدارة دونالد ريغان وإيران التي مثلها رئيس الوزراء أبو الحسن بني صدر وبحضور ومشاركة إسرائيل في باريس عام 1985، وبموجبها أرسلت الأسلحة الأميركية الاسرائيلية لإيران لدعمها في حربها ضد العراق الشقيق. وتلا ذلك تحالفها مع الحلف الثلاثيني ضد العراق، وارسلت قوى المعارضة العراقية على ظهور الدبابات الأميركية والبريطانية، وتعميقا لهذا التوجه، تمددت إيران في لبنان والعراق وسوريا واليمن وطبعا فلسطين من خلال دعمها لحركة الجهاد الإسلامي ثم دعمها لحركة حماس، وأعلنت ان بلاد فارس تمتد من فلسطين الى اليمن مرورا بالدول المذكورة انفا. ومن تابع خطاب القيادات الإيرانية أدرك الخلفيات القومية للدولة الفارسية، والعقدة التاريخية التي لازمت تلك القيادات من العرب والأتراك، الذين تبوأوا قيادة الخلافة الإسلامية، وبقيت القيادات الفارسية في دائرة المحوطة والتبعية.
ارتباطا بذلك، ارتبطت جمهورية الخميني خامئني الفارسية بعلاقات تحالفية مع إسرائيل وسادتها في واشنطن، استنادا الى القواسم المشتركة بينهم، والقاسم الأهم: تفتيت وتمزيق الوطن العربي، ونهب ثرواته، وابقائه في دوامة المحوطة والتبعية والاستنزاف، ولكن بعد ما انتهت المهمة الوظيفية للدولة الفارسية، وباتت المصالح الأميركية الإسرائيلية الغربية تتعارض مع تمدد إيران في الوطن العربي، وأصبحت هناك ضرورة لبناء شرق أوسط جديد تقف على رأسه إسرائيل تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبفعل جملة من الذرائع الصهيو أميركية، شنت إسرائيل عدوانها على بلاد فارس، معلنة انتهاء دورها الوظيفي، وارسلت لها رسالة كبيرة وجلية الوضوح، انتم أتباع، ولستم شركاء في تقاسم النفوذ في الإقليم، فإن قبلتم بمكانكم الجديد، نقبل بكم، وان رفضتم، فمصيركم الموت والإخضاع بالقوة، وهو ما كشف عن حقيقة دامغة، ان الغرب وربيبته إسرائيل، لا يقبلوا شركاء في العالم، وليس في الإقليم فقط، انما يقبلوا بالأنظمة التابعة والمأجورة، والتي تدفع الجزية والخاوة.
والنتيجة المنطقية لما تقدم، وردا على أصحاب الأسئلة المذكورة، فإن واشنطن وتل ابيب والغرب عموما، لا يقيمون وزنا للتحالفات أو ادعياء الشراكة والندية، الا بمقدار خضوعهم لأجندتهم ومصالحهم. وبالتالي أعادوا من خلال حربهم على بلاد فارس العلاقات الى طبيعتها، علاقات التابع والمتبوع، والاذعان للخارطة التي صمموها لهيكلة الشرق الأوسط الجديد. لكن على ما يبدو ان كل من اميركا وإسرائيل ومن يدور في فلكهم، تناسوا ان خارطة العالم تتغير، وما كان مقبولا خلال العقود الثمانية الماضية بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد مقبولا الان، والمستقبل المنظور يملك الجواب.