عبدالكريم الدغمي: لا يجوز لك البقاء صامتاً

مدار الساعة – كتب: عبدالهادي راجي المجالي -صباح الخير يا عبدالكريم..صباح الخير يا عبدالكريم الدغمي، صباح الورد والسكر.. لا أريد أن أهاتفك لأن المكالمة بيننا، تشبه زغب الطائر الذي غفا في العش، مع أول هبة ريح يختفي الزغب في المدى، أريد أن أكتب لك.. فالكتابة توثق الجرح والدمع.يقولون: عبدالكريم الدغمي توارى عن الأنظار، وبعضهم يقول لاذ بالصمت.. وبعضهم يلمح لي حين يأتي (طاريك الحلو)، بأنك تمضي الليل مع الندامى والشعر والفرح.. ليكن ليلك مع الندامى.. ليكن، على الأقل نحن أوفياء لليل والقصيدة.. بعكس من احترفوا اليسار وباعوا اليسار كله على طاولة (صاحب العطوفة)، بعكس من أطلقوا اللحى واحترفوا الرايات الخضراء، وباعوا الرايات وحلقوا اللحى عند أول موقع وأول دفعة تحت الحساب.. نحن الذين طوينا ليالي المفرق والكرك ولم تطونا الليالي..صباح الخير يا عبدالكريم، واسمح لي أن أقول لك أمرا آخر قد يزعجك وهو: أن أحدا من غلاة الإسفاف والتقارير، همس في أذني أول أمس وقال: (عبدالكريم حطوه ع الرف).. ضحكت وتذكرت مظفر النواب، فهو مثلك مظفر مثلك، على حليب الجنون تربى، ولاك الشوك مع كل قضمة خبز، هو مثلك حين قال عنهم : (تهر خلفي كلاب الليل ناهشة أطراف ثوبي على عظم من المنح….. ضحكت منها ومني فهي يقتلها سعارها وأنا يغتالني فرحي). أنت يا عبدالكريم مثله تماما حتى الفرح تآمر عليك واغتالك، والجنون الذي ورثته من رمل المفرق، والتمرد.. وذاك الرفض، والوطن الذي بنيناه في محاجر العيون، والحلم الذي أفقنا عليه.. والمساحات التي صنعناها للشعر والسياسة والعشيرة والرفض، ومبادئ القانون التي درسناها، والمحاكم.. وكراسي مجلس النواب، وفناجين القهوة والمكتب، ومسدس الوالد،.. كل ذلك كان يغتالك، وها أنت على حواف الشيب الآن مثخن بالجراح، ولكنك الوحيد في الأردن الذي مضى في هذا العمر.. وهو فرح بالنزف..فانزف، نحن أصلا مع كل قطرة دم ننزفها نغسل وجه البلد، ونغسل الخطايا، ونؤسس منهج التمرد الجديد القادم.وضعوك على الرف !!!..هكذا قالوا لي يا عبدالكريم، واسمح لي أن أعاتبك قليلا، فاسمع عتب اللغة والقلب، واسمع صهيل الريح الكركية إن مرت فوق مقام جعفر الطيار، واستفزت رمحا، أو علقت تميمة على صدر الجنوب..لا يحق لك أن تصمت، هذي العيون لا تصمت حتى وإن غسل دمعها وجهك كل صباح… وهذا القلب الذي ضخ الدم الخضيب، لم يكن قلباً كان مثل طبول الحرب تقرع في صولات الحب والعشيرة.. إياك أن تصمت، وتحدث بما يجب وكما يجب واطلق صرختك، إن دمشق التي غسل نزار قباني وجهها بالياسمن والهوى.. ستظل هي دمشق، فقاسيون لن يرحل.. والمسجد الأموي سيبقى ينشد مع كل صباح عند الأذان: قادم من مدائن الريح وحدي فاحتضني كالطفل يا قاسيون أهي مجنونة بشوقي إليها هذه الشام أم أنا المجنون؟ لا تصمت، إن راية العباس في كربلاء ومنذ (1400) عام، ما زالت تخطب في الطف كل يوم، ويأتي ماء دجلة طالبا التوبة.. تخيل حتى الماء رفضت توبته، وها هي ما زالت تطوف فوق العمائم والريح..أيصمت من أطرب صوته، دالية العنب، وجدران الوطن المغيب في المنفى.. لا تصمت إن الصمت خطيئة، وإن أكبر خطيئة سجلت في تاريخ السيف والنخل العربي كانت: يوم صمت على ظلم (ابي ذر الغفاري).. فنام هذا الثائر والصحابي على وسادته، وما معه إلا الصبر ورحمة ربه، وارتضى الظلم.. وحيدا في الموت والمسار والبعث، ولكنه ترك في الدنيا، كل المبادئ وكل القوانين، وترك العشق.. أبو ذر لم يكن متمردا كان عاشقا، وترك لنا دربه والمسار منهجاً ودليلاً.لا تصمت وتذكر.. ذاك العربي العتيق، مظفر صديقك.. الذي أتعب الفنادق والمطارات، ونام على الأرصفة… وظل يحن للعراق مع كل همسة تأتي من المدى، مات مظفر.. وحين مات، نكست الريات الحمراء في قلب كل شيوعي.. ويقال إن نخلة في دجلة انحنت، فقد خلدها بشعره.. أي رجل هذا الذي جعل النخلات تهيم بعشقه، لكنه ترك القصائد.. وكل قصيدة كانت قنبلة، ومفخخة وألف صرخة رفض.. وألف كوكب يسير مع الراحلين في تخوم الصحراء العربية، ويجعلهم يشدون قبضاتهم على السيف خوفا من ذئاب الليل، ألم يحذرنا مظفر من الذئاب حين قال: (لا تأمنوا جنس الذئاب إن الذئاب وإن جاورت كعبة الله تترك بحراً من الدمع لا تؤتمن لا تأمنوا جنس الذئاب.. إن الذئاب بدون ذنوب.. ذنوب) صباح الخير يا عبدالكريم..لقد تعلمنا منك الجنون، وتركتنا على الطريقة نسير.. فهل يتخلى راهب عن محرابه، هل يتبرأ شيخ من مذهب أسسه، وهل يتوب اللحن من وتر العود.. هذا وقتك كي تصرخ، فاصرخ يا صديق ما عاد شيء يحتمل.. ومن يقول إن الصمت فضيلة هو كاذب، لقد سرقوا منا الطريق والمدى.. سرقوا المنعطف والجرف والمنحدر.. سرقوا الأمنيات والقصائد، سرقوا الجديلة والمنى.. فاسترد يا رفيق الخطى المتعبة بعضا من صخبنا، هذا وطن لا يليق إلا علينا، ونحن نليق به..وأسلم لصاحبك.