عريفج يكتب: الدم في كنيسة دمشق – رسائل الإرهاب على مائدة التعددية – بقلم المحامي هيثم عريفج

في مشهد جديد من مشاهد الإرهاب الذي يضرب سوريا منذ أكثر من عقد، شهدت العاصمة دمشق هجومًا إرهابيًا استهدف كنيسة مار إلياس، إحدى أبرز الكنائس المسيحية في المدينة. هذا العمل الإجرامي لا يمكن عزله عن المسار الطويل من العنف الذي زرعه الفكر المتطرف في البلاد، ولا عن الاستهداف الممنهج للأقليات الدينية والطائفية، في إطار مشروع ظلامي يهدف إلى تفكيك النسيج السوري المتعدد والانقضاض على رموزه الحضارية والروحية.بدأ المشروع التكفيري الذي اجتاح سوريا خلال الحرب الأهلية السورية ، وبعد سقوط النظام، قام الإرهابيون باستهداف أبناء الطائفة العلوية في الساحل السوري، متخذين من خطاب الكراهية والتحريض الطائفي أداة لتبرير العنف. ثم اتسعت دائرة الاستهداف لتطال الدروز في السويداء وفي مناطق من دمشق، تحت ذرائع دينية زائفة، وصولًا إلى استهداف المسيحيين في أكثر من منطقة، من حلب ومعلولا إلى حمص، والآن في قلب العاصمة.هذا التسلسل ليس عشوائيًا، بل يعكس رؤية متطرفة تنظر إلى “الآخر” — دينيًا أو مذهبيًا — على أنه هدف مشروع يجب إقصاؤه، إرهابه، أو طرده. ومن هذا المنطلق، فإن الهجوم على كنيسة مار إلياس لا يُعد حادثًا معزولًا، بل حلقة في سلسلة طويلة من الجرائم التي تهدد كل من يؤمن بالتعددية والعيش المشترك في سوريا والمنطقة.استهداف الكنائس لا يقتصر على محاولة تدمير الحجر أو طمس موقع أثري، بل هو اعتداء مباشر على هوية جماعية، وذاكرة وطنية متجذرة. ويأتي هذا الاعتداء، الذي استهدف مصلين آمنين، وأدى إلى استشهاد أكثر من عشرين شخصًا وإصابة العشرات، كدليل آخر على أن الإرهاب لا يميز بين الأبرياء، بل يتغذى على الدم والكراهية.تُعد كنيسة مار إلياس، كغيرها من دور العبادة، شاهدًا حيًا على تاريخ المؤمنين في سوريا، الذين كانوا وما زالوا جزءًا أصيلًا من حضارة هذه الأرض .وإذ تتكرر هذه الاعتداءات، فإن الصمت أو التواطؤ أو التبرير، يصبح شركاء في الجريمة، ويُشكل تهديدًا صريحًا لفكرة “سوريا الواحدة الجامعة “، القائمة على احترام التعددية، لا على قمعها أو تصفيتها.إن مواجهة هذا الفكر لا تتم فقط بإدانة العمليات بعد وقوعها، بل بتجفيف منابعه، ومحاسبة حواضنه، والتصدي الجاد لكل أشكال التحريض الطائفي والديني، سواء في المنابر، أو المناهج، أو الإعلام.كما أن من مسؤولية الدولة السورية، والرئيس أحمد الشرع، وكافة القوى الوطنية الفاعلة، أن تكرّس الحماية الأمنية والقانونية والاجتماعية لكل مكوّن من مكونات المجتمع السوري، وأن تؤكد — بالفعل لا بالقول — أن ما يصيب كنيسة أو حسينية أو جامعًا أو مقامًا، إنما يصيب الوطن بأسره.يبقى الأمل معقودًا على وعي السوريين وتمسّكهم بوحدتهم، وعلى جهود الحكومة السورية الحالية في إثبات أن سوريا وطن لجميع أبنائها، بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية، كما يبقى الرهان قائمًا على يقظة المجتمع الدولي في رفض خطاب الإرهاب والتعامل معه بكل حزم ، ومحاسبة من يموّله أو يبرّره أو يغذيه.أما كنيسة مار إلياس، فستظل — رغم الألم — قائمة، شامخة، شاهدًا على صمود المسيحيين في دمشق، وعلى أن رسالة المحبة والرجاء أقوى من أحقاد المتطرفين.