في الذكرى التاسعة عشر لرحيل عبد المنعم مدبولي، نعاود نشر مذكرات بابا عبده.

في الذكرى التاسعة عشر لرحيل عبد المنعم مدبولي، نعاود نشر مذكرات بابا عبده.

رغم ميولى الكوميدية فأنا أجيد التراجيديا
زكى طليمات شغلنى «كومبارس» فى مسرحية «المنقذة»
وقال لى: «اقطع دراعی لوخدت الدبلومة»
المسرح الحر توقف من أجل مسرح التليفزيون
عباس فارس كان يتلو القرآن الكريم فى اوقات الراحة بين الفصول

نصف قرن هو زمن مشوار عبدالمنعم مدبولى، شارلى شابلن العرب، الفنى، وقدم فيه ما يزيد على 120 مسرحية مؤلفا ومخرجا وممثلا.. ونجح فى أن يضفى اللمسة الكوميدية على شاشة السينما من خلال أدواره وشخصياته المختلفة، كما أنه صاحب الرصيد الأكبر من المسلسلات التى تصل إلى 30 عملا..

 ولد فى 28 ديسمبر عام 1921 لأسرة بسيطة بحى باب الشعرية، واكتشفت أسرته ميوله الفنية فى سن التاسعة من عمره عندما كان يحفظ منولوجات ويبرع فى تقليد الشخصيات، كما كان يقلد أساتذته ومدرسيه، وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية التحق بالمدرسة الثانوية للصناعات الزخرفية، وهناك بدأت مواهبه تظهر أكثر، فانضم إلى برامج الأطفال فى الإذاعة التى كان يشرف عليها “بابا شارو”، كما كان مطربا محترفا يعرف كيف ينتقى لحنا وكيف ينتقل من مقام إلى مقام دون نشاز، الأمر الذى أدهش كل من لحن له أغانيه التى قدمها فى أفلامه ومسرحياته، أو تلك التى غناها للأطفال.

لفت الأنظار إليه كفنان مسرح يجيد صناعة الضحك والفكاهة، وازدادت شهرته وكون فرقة “ساعة لقلبك” مع الكاتب “يوسف عوف” والتى ضمت العديد من الفنانين أمثال فؤاد المهندس.. أمين الهنيدى.. محمد عوض.. وفؤاد راتب “الخواجة بيجو” ومحمد أحمد المصرى “أبو لمعة” ومحمد يوسف “المعلم شكل”، ونجحت الفرقة نجاحا غير مسبوق ثم تحولت إلى برنامج إذاعى كوميدى..

ـ لم يكن إبداعه مقصورا على المسرح، بل امتد إلى الإذاعة والتليفزيون؛ ففى الإذاعة شارك مع بابا شارو فى برامج الأطفال فى منتصف الأربعينيات، وقدم خلال هذه السنوات العديد من البرامج والمسلسلات الإذاعية الناجحة، وقدم برنامجه الشهير “ساعة لقلبك”.. وبرنامج “وراء الستار” الذى كان يتولى تقديمه وتمثيله مع فؤاد المهندس.. ومن أشهر مسلسلاته الإذاعية “هيجننوني” مع الكاتب يوسف عوف وخيرية أحمد، ومسلسل “عبده كاراتيه” بطولته مع توفيق الدقن وصفاء أبو السعود، “لعبة الحب” مع عمر الحريرى وبوسى، “مزيكا بولتيكا”، “عاشق رايح جاى”.

ومن الاسكتشات التمثيلية التى قدمها لركن المرأة فى إطار اجتماعى “نشرة أخبار.. الصحة تاج.. حبة زقططة، ارجع يا زمان”، وكذلك برنامجه الكوميدى الشهير “محطة إذاعة” وبرنامجه “صباح الخير يا زوجتى العزيزة”.. وفى التليفزيون شارك فى 30 مسلسلا، منها فوازير للأطفال باسم “جدو عبده زارع أرضه”.. ومسلسلات للكبار مثل “طيور الشمس” و”لا يا ابنتى العزيزة”.. “أبنائى الأعزاء شكرا”.

كما بدأ مشواره السينمائى عام 1958 بفيلم “أيامى السعيدة”، بعدها شارك فى العديد من الأفلام، منها “هايجننونى.. للمتزوجين فقط.. غرام فى أغسطس.. ابن الحتة.. آخر جنان.. التلميذة والأستاذ.. مولد يا دنيا.. احنا بتوع الأتوبيس”.

وبمناسبة مرور الذكرى التاسعة عشرة على رحيله، نعيد نشر مذكراته التى رواها لنا فى حوار لـ «الإذاعة والتليفزيون»، ونشرت على صفحاتها ووثقتها الكاتبة الصحفية محاسن سلام على حلقتين فى عددى المجلة (2990، 2991 ) بتاريخ، 4 و11 يوليو فى 1992.

 جاء فيها بالحلقة الأولى الآتى:

فى معهد التمثيل توقع له زكى طليمات عدم الحصول على “الدبلومة”.. لكن “بابا منعم” كان أقوى من اليأس، وجاء بعد عامين ليقول له “أنا أخذت الشهادة.. كل سنة وانت طيب”، وعندما ترك “الميرى” عاش شهورا من العذاب والحرمان، فقرر أن يتمسك بوظيفته، وأن يكتفى بهواية الفن بعيدا عن الاحتراف وآلامه.

ويتدفق شلال الذكريات حاملا صور البهجة والألم جنبا إلى جنب فى حياة عبد المنعم مدبولى المليئة بالمفاجآت.

وقبل أن ينتهى بابا عبده من سرد ذكرياته عن معهد التمثيل. رفع إصبعه السبابة وهو يركز نظراته فى الفراغ كأنه ينقل صورة أمامه وهو يقول: فترة الدراسة بالمعهد كانت زاخرة بالذكريات الجميلة والقاسية أيضا، وبداية القسوة عندما ترددت لجنة التحكيم فى قبولى؛ فهى لم تكن قد وضعت فى حسابها مكانا لفنانى الكوميديا، وأنا فنان کومیدی، اخترت لنفسى هذا المجال ووجهت نفسى إليه دون إرشاد من أحد.

أما زكى طليمات رئيس اللجنة فقد كانت ميوله تراجيدية، وهذا ما أوجد الصعوبة فى التعامل فيما بيننا، وهو كان أستاذا كبيرا وصعب المراسوعلاقته بطلبة المعهد جادة جدا.. ثم إنه كان رجلا رياضيا وكنا نراه فى الشتاء لابسا قميص “نص كم” وبنطلونا خفيفا، ويقف فى وسط المعهد يؤدى التمرينات الرياضية.. وكان يحب أن يفعل الجميع مثله.

ويبتسم “بابا عبده” ابتسامة عريضة بين سيل الذكريات الذى يتدفق مع صوته ويقول: أذكر مرة.. وتتوقف الكلمات مرة أخرى ويكمل: لا أعرف بالضبط متى دخل زكى طليمات الفصل وأشار نحوى قائلا بلغة الأمر: انت وعبد الحليم الزرقانى وأحمد الجزيرى تجهزوا حاجة تراجيدي، وجلست أفكر باستغراب هل يريد أن يحولنى من الكوميديا للتراجيديا.. وكنا ساعتها فى السنة النهائية. وفى الحقيقة رغم ميولى الكوميدية فأنا أجيد التراجيديا.. وفعلا جهزناها.. وكان دورى فيها دور رجل عجوز.. وفى اليوم الثانى جاء زكى طليمات إلى الفصل وقال بلغة الأمر أيضا: “اطلع”… وكان قصده أن أقف أمام الفصل مع الجزيرى والزرقاني، وكان المشهد يتطلب أن يقوم أحدهما بصفعى على وجهى.. وعندما صفعنى الجزيرى أدرت له ظهرى وأنا أقول له: “يا ابن….. فى حين كان لابد من وقوفى مواجها له لاستكمال المشهد، فوقف طليمات وقال موجها كلامه لى: ” إيه ده” وكانت إجابتي: “دى حتة کومیدی کده” فانصرف دون أن نستكمل المشهد.. ومما زاد الطين بلة فى علاقتى معه أنه بعد هذا المشهد أخذنى أنا والجزيرى لنقوم بأدوار “كومبارس” فى مسرحية يقدمها بدار الأوبرا وهى بعنوان “المنقذة” وكتبها تيمور.. وكنا “كومبارس” بلا أدوار ضمن خدم المسرحية.. وكان المفروض ان أنا وأحمد الجزيرى ندخل المسرح وهو مظلم تماما لإشعال شمع… وعلى إضاءة الشموع تنزل الستار.. ولما نويت أولع الشمع الكبريت حلف ما هو مولع.. ولما انتهى أحمد الجزيرى من إشعال الشمع فى الجانب الآخر “اتلبخت”.. وكان زكى طليمات واقفا وراء الكواليس على وشك الجنون وأخيرا ولعت الشمع وخرجت، وإذا به واقفا أمامى يقول لي: “أقطع دراعی لو خدت الدبلومة” وتلجلجت وأنا اقول له: “أصل الكبريت”.. فأجابنى مرة أخرى “أقطع دراعى”.

ويمضى بابا عبده فى ذكرياته:

– ومرت الأيام وانتهى العرض الأول، وبعد ٤ شهور أخذونا مرة أخرى لأداء أدوارنا “الكومبارس” فى مسرحية “المنقذة” على مسرح الأوبرا فى الموسم الصيفى، ويتكرر الموقف بكافة تفاصيله بما فيها “أقطع دراعى لو خدت الدبلومة”.. فنظرت إليه وأنا أضحك وأقول له “أنا حصلت على الدبلومة فعلا كل سنة وانت طيب”.. وزكى طليمات رغم القسوة البادية عليه، إلا أنه كان عالما كبيرا وأستاذا جليلا له تاريخه الفنى الطويل على خشبة المسرح.. ومن عادته أن يهتم بمخارج الألفاظ ووضوح العبارات.. ولكن عيبه الوحيد أنه جاد جدا وأنا “بهزار” جدا. وقد كانت الأعمال الأكاديمية شغله الشاغل.. وكان الإخراج عشقه الأول، فقد قدم للسينما فيلمين أو ثلاثة، منها واحد مع الفنانة عزيزة أمير وآخر باسم “أنشودة الفؤاد” أو “أنشودة النيل” حاجة زى كده، أما مجده الحقيقى فهو المسرح؛ فقد كان من أبطال فرقة “يوسف وهبى” فى تكوينها الأول بالاشتراك مع عمالقة الفن ومؤسسيها الأوائل.. ولكن زكى طليمات لم يقنع بالتمثيل فقط.. فدفعته رغبته فى الإخراج إلى ترك الفرقة فى ذروة مجدها وسافر إلى فرنسا ليدرس الإخراج المسرحى وتاريخ المسرح، وعاد للقاهرة عام 1933 حاملا فكرة تأسيس معهد للتمثيل، وكانت الفنانة زوزو حمدى الحكيم من أولى الملتحقات به… ولكن فكرة المعهد لم تجد قبولا لدى الشارع المصرى الذى اتهم أصحابه بالفسق.. فالمجتمع أيامها كان يرى الفن حراما… وبناء على هذه الاتهامات تم إغلاق المعهد بعد عدة شهور من إنشائه، وتفرغ زكى طليمات لإدارة المسرح القومى والعمل كمخرج به… ولكن رغبة تأسيس المعهد لم تخمد فى داخله أبدا، حتى جاء عام ١٩٤٤ ليشهد افتتاح زكى طليمات لمعهد التمثيل، ويشهد أيضا أعدادا لا حصر لها من الفنانين يلتحقون بالمعهد الذى استمر حتى الآن.. وفى تلك الفترة رسم زكى طليمات خطوطا عريضة للفن مازالت سارية حتى يومنا هذا.. واقتصر عطاؤه الفنى على إدارة المسرح القومى والإخراج له.

وينتقل “بابا منعم” للحديث عن علاقته هو بالمسرح القومى فيقول: كان التقليد المتبع لخريجى معهد التمثيل هو الالتحاق بوظيفة “ممثل” بالمسرح القومى أو المسرح الحديث، فكلاهما تابع لوزارة الثقافة التى تتولى تمويلهما بصورة كاملة وللأسف لم ألتحق بأى منهما، فقد كان الشرط الأساسى للالتحاق هو “التفرغ”، أى لابد من الاستقالة من العمل الذى يقوم به الفنان بعيدا عن المسرح، وقد أقدم على هذه الخطوة فريد شوقى وعبد المنعم إبراهيم.

وعندما عرض علىّ الالتحاق بالمسرح القومى لم أجد الشجاعة الكافية لتقديم استقالتى من عملى كمدرس بكلية الفنون التطبيقية، خاصة وأننى قد خضت هذه التجربة من قبل، أثناء دراستى بالسنة الثانية بالمعهد، فقد تم نقلى لمدينة الفيوم، وكان لابد أن اختار بین عملی ودراستى بالمعهد.. وتغلب حبى للفن وصممت على استكمال مشوارى فيه رغم أننى كنت فى بداية الطريق ولم أتأكد بعد من حقيقة موهبتى.. ومما ساعدنى على تقديم الاستقالة صعوبة إلغاء النقل للفيوم وصعوبة السفر يوميا من القاهرة إلى هناك، وأخيرا وهو الأهم تفوقى المتميز فى السنة الأولى من المعهد.. كل هذه الأسباب إلى جانب ارتباطى الشديد بالفن كانت وراء تقديمى للاستقالة أكثر من مرة.

ويكمل بابا عبده:

وهنا لابد أن أؤكد أن المثل السائد فى ذلك الوقت هو “إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه”.. ورغم أن المسئولين بكلية الفنون لم يقبلوا الاستقالة مرتين إلا أنهم فى المرة الثالثة وافقوا عليها.. وبدأت مع الاستقالة رحلة الصعلكة والعذاب… فقد عشت ثلاثة شهور من اسوا ايام حياتى جعلتنى اشعر بقيمة الوظيفة… فالفن لم يكن مهنة ثابتة أستطيع أن أعيش من دخلها، ولم يكن لى مصدر دخل آخر.. ومع بداية الشهر الثالث بدأت رحلة العودة للكلية والذى ساعدنى على العودة هو عميد الكلية الذى كان أستاذى بمعهد التمثيل.. من تجربة العذاب هذه تعلمت ألا أترك وظيفتى مرة أخرى مهما كانت المغريات، ورغم المحاولات التى بذلها زملائي، الذين تركوا أعمالهم من أجل الفن، رغم محاولاتهم أن أترك عملى ظللت أعمل كأستاذ بقسم النحت بكلية الفنون التطبيقية حتى أحلت للمعاش… وواظبت على حضورى للكلية حتى آخر يوم لى فيها.

ويضيف: ومن هنا كان إصرارى على الجمع بين عملى بالكلية وعملى كمدير للمسرح الكوميدى بالتليفزيون عندما رشحنى د. عبد القادر حاتم لهذا المنصب.. فكان شرطى الوحيد هو الجمع بين العملين، فربما تدب الخلافات بينى وبين د. حاتم وتنتهى بى إلى أن “أسرح بسميط على باب المسرح”.. أما عن علاقتى بالمسرح القومى فهى لم تتجاوز علاقة “هاوى” بفنانين محترفين.. ففى هذه الفترة كونت أنا وعدد من الفنانين فرق “هواة”.. وكنا نستعين ببعض الممثلين المحترفين من المسرح القومى مثل “فوزية حجازى” التى تمتلك الآن مخزن ملابس للممثلين..

 كما جاء بالحلقة الثانية الآتى:

وفى هذا العدد يواصل مدبولى رواية ذكرياته، فيقول:

البروفات والعروض مقابل جنيهين فقط، بل وعليها أن تأتى بملابسها معها.. وكنا نستعين أيضا بجمالات زايد وآمال زاید ووداد حمدى للمشاركة فى عروضنا.. وقد كانت علاقتى بالفنانة فوزية حجازى قوية جدا، ثم ربطتنى الصداقة بزوجها محمد حجازى وكان مدير خشبة المسرح القومى، وعن طريقه اقتربت كثيرا من كواليس المسرح ومن الفنانين الكبار، أمثال عباس فارس وجورج أبيض.. وكنت أحس بمتعة خاصة عندما أقترب منهم، خاصة فى حياتهم اليومية بعيدا عن خشبة المسرح.. عباس فارس مثلا كان من المتدينين جدا.. ففى أوقات الراحة بين فصول المسرحية كانت جلسته المفضلة مع القرآن وتلاوته.. أما جورج أبيض فقد كانت له طقوسه الخاصة.. فبمجرد دخوله من باب المسرح الرئيسى لا يقبل أن يدخل فى أى حوار ويرفض حتى أن يلمسه أحد إلى أن ينتهى العرض.. وقد تطلب دوره فى إحدى المسرحيات “لويس السابع عشر” أن يدخل مع رفع الستار وهو غاضب وثائر.. وبناء على ذلك وقف جورج أبيض فى الكواليس يزأر مثل الأسد ولكن بصوت منخفض وكأنه يدرب نفسه على هذا الغضب حتى يخرج إلى الناس بصورة مخيفة على المسرح.. أما عنى فأنا لم أقف على خشبة المسرح القومى مطلقا. أو بمعنى أدق لم أقدم أعمالا هامة.. لم يكن من السهل على “بابا منعم” أن يقتحم ساحة الفن فى الوقت الذى كان يسيطر عليها عمالقة مثل إسماعيل ياسين والريحانى.. ويبتسم الفنان الكبير وهو يتذكر كل ذلك ويقول: مما لا شك فيه أن المسالة محتاجة لأن يعلن الواحد منا عن حضوره بقوة.. أى لابد أن أقدم أقوى إمكانیاتی، فخلاصة الصراع الفنى أن يستمر الجيد ويتوقف الرديء حيث يعرض الناس عنه.. وقد غامرنا كثيرا للحصول على دور فى السينما أو المسرح.. فمعهد التمثيل يعطى شهادة لا وظيفة.. وممكن أن يكون الخريج لا يساوى “۲۰ خردة”.. وكانت الصعوبة الحقيقية فى سيطرة العمالقة على ساحة الفن لفترة طويلة.. ولذا فقد احتاج جيلنا مجهودا كبيرا حتى تمكن من الوقوف بينهم.. وسهل الأمر نسبيا صغر حجم الوسط الفنى وقتها وقلة الفرق الكوميدية والتراجيدية.. فأصبح ظهور نجم جديد على الساحة متاحا.. أضف إلى ذلك أن هؤلاء العمالقة كانوا أحيانا يتحمسون لمن يعجبهم من الشباب الصاعد، وبسبب هذا الحماس يقدمونه للجمهور ويساعدونه فى تحديد مصيره حتى ينجح، فيتركونه بحثا عن وجه جديد يخطو على عتبات الفن. وأبلغ مثال على ذلك ما حدث للفنان عبد المنعم إبراهيم وهو زميلى فى المعهد… ولكنه انتشر بدرجة كبيرة حتى إنه لا يوجد فيلم فى تلك الفترة لم يشترك فيه.

ويستكمل “بابا عبده” ذكرياته مع عبدالمنعم إبراهيم.. فيقول: ورغم أنه لم يقدم كل ما لديه من إمكانيات إلا أنه نجح نجاحا باهرا حتى أصبحت أسير معه فى الشارع فلا يعرفنى أحد من الجماهير التى كانت تطارده دائما.. ولكنه لم يجد الاهتمام الحقيقى إلا فى عدد قليل من المسرحيات المحترمة التى كتبها ألفريد فرج مثل “على جناح التبريزى وتابعه قفة” وغيرها من الأعمال التى أعادت لنا اكتشاف عبد المنعم إبراهيم وأكدت أنه “كوميديان مفيش كده وتراجيدى ممتاز”.. وفى الغالب أن جيلنا جنت عليه السينما.. فمثلا توفيق الدقن كان ممثلا على درجة كبيرة من الإجادة، ولكن السينما حبسته فى دور واحد هو دور الشر، و”يا آه يا آه” و”أحلى من الشرف مفيش”.. وقد قدم محمود المليجى كذلك مسرحيات ناجحة جدا ومختلفة كثيرا عن دور الشرير الذى حبسته فيه السينما التى التقطت أيضا فريد شوقى بعد نجاحه فى مسرح “الهواة” ولكنها لم تستطع أن تجرفه أكثر فى تيار النجومية، فقد أعاد حساباته ليصبح فريد شوقى آخر أكثر عطاء وأكثر جماهيرية.

وعن ذكرياته مع السينما يقول “بابا عبده”:

قدمت للسينما عددا لا بأس به من الأفلام، ولكننى اكتشفت أهمية المسرح فى حياتي، وقد كان الخوف هو سبب عدم التحاقى بأى من الفرقتين القوميتين، لذا فقد قمت بتكوين فرقة المسرح الحر الذى لاقت فكرته نجاحا كبيرا.. وكان المسرح الحر هو أولى خطوات نجاحى فى عالم المسرح.. فمن خلاله قدمت أعمال إسماعيل ياسين وغيره من الفرق المسرحية الكبيرة.

يقول بابا عبده: خوفى من الاستقالة الذى كان السبب فيه شهور الضياع التى عشتها بدون عمل كان ماثلا فى ذهنى عندما حصلت على الدبلومة.. وأيامها كان الخريجون لابد أن يلتحقوا إما بالمسرح القومى أو المسرح الحديث الذى أسسته وزارة الثقافة أثناء تخرج الدفعة الثانية من المعهد.. وضم بالفعل نصف خريجى الدفعة الأولى وكل الدفعة الثانية تقريبا.. واستعمل فى ذلك كل وسائل الإغراء لضم أكبر عدد ممكن. فقدم لكل خريج ١٢ جنيها فى البداية كمكافأة شهرية تحولت فيما بعد إلى مرتب شهری.. ورغم أن مبلغ ۱۲ جنيها كفيل بإدارة رأس أى خريج جامعى إلا أن الخوف من المستقبل الفنى – الذى لا يعلمه إلا الله – حال دون مجرد التفكير فى الاستقالة مرة أخرى.

وأمام كل هذه العقبات يقول مدبولى: ومع حبى الشديد للمسرح، وإصرارى على ألا أقدم غير الأعمال المسرحية.. كل ذلك دفعنى أنا ومجموعة من الزملاء لتكوين المسرح الحر” واخترنا كلمة “الحر” لأننا كنا جميعا من الهواة وليس بيننا محترفون وكنا فى أولى خطواتنا الفنية، أنا وإبراهيم سيد وإبراهيم سكر. وزكريا سليمان. وعبد الحفيظ التطاوى.. وتوفيق الدقن، وصلاح منصور، ومحمد رضا، وأبو بكر عزت وعلى الغندور وعمر عفيفى، وحسين جمعة.. ومن السيدات.. خيرية أحمد وعصمت محمود وأمينة نور الدين، وناهد سمير.. إلى جانب الاستعانة بنجمة مسرح “يوسف وهبى” الفنانة زوزو نبيل.. وكانوا جميعا من خريجى الدفعتين الثانية والثالثة بمعهد التمثيل باستثناء زوزو نبيل.

وعندما استقرت هذه المجموعة بدأنا أولى خطوات تكوين الفرقة عام ١٩٥٢ وكان التساؤل المطروح هو من سيكتب مسرحيات الفرقة؟.. أم أننا سنستعين بالأعمال العالمية.. وقررنا التعامل مع الكتاب الشباب من أبناء جيلنا.. ووقع اختيارنا على الكاتب “محمد كمال هاشم خريج قسم النقد بالمعهد أيضا.. فكتب أولى المسرحيات وهى “الأرض الدائرة”، وكانت النية مبيتة من جميع أعضاء الفرقة على منافسة المسرح القومى والمسرح الحديث بأعمالهما الجادة الجماهيرية.. وانتهت حيرتنا الأولى باختيار العمل ولكن من سيقوم بإخراجه لنا.. فى البداية لجأنا إلى سيد بدير، وفتوح نشاطى وغيرهما من أساتذة الإخراج بالمسرح القومى. ولكنهم اعتذروا جميعا ربما خوفا من غضب زكى طليمات مدير المسرح القومى والمخرج الأول هناك.. لأن عملهم معنا يعتبر منافسة له.. وربما كان خوفهم من أننا مازلنا فى بداية الطريق، ولم ننجح بعد. ولم يكن رأس المال الذى جمعته الفرقة كلها يزيد على ۲۰ جنيها.

وزادت الحيرة، وبدأت ملامح الفشل تبدو فى الأفق، وأصبح اليأس يطارد الفرقة التى لم تخرج للنور بعد.. وفوجئ بابا عبده بإجماع أعضاء الفرقة على اختياره ليخرج العمل الأول لهم..

 وعن هذه التجربة يقول: اختيارهم لى لم يأتِ من فراغ.. فقد أخرجت من قبل العديد من المسرحيات لمسارح الهواة سواء على مسرح كلية الفنون التى أعمل بها أو الكليات الأخرى… إلى جانب أننى كنت أذهب يوميا إلى المسرح القومى لحضور بروفات الفنانين، خاصة إذا كان المخرج هو زكى طليمات. وكنت أجلس فى مقاعد المتفرجين أتابع حركات الممثلين وإرشاد المخرج لهم. وكان زكى طليمات يشعر بوجودي، وكثيرا ما كان يداعبنى بأن يترك كل ما فى يده ويلتفت نحوى قائلا: “إنت جيت يا مدبولي” أو “عاجبك كده يعني”.. وكان دائما يهدد عبدالغنى السيد فى “العشرة الطيبة” بأنه سيستعين بى بدلا منه…

الثقة التى وضعها أعضاء الفرقة فى بابا عبده جعلته يعشق الإخراج خاصة بعد المسرحية الأولى، وكانت جمعية أنصار التمثيل والسينما تحت رئاسة سليمان نجيب ومحمد توفيق ولها دور كبير فى خروجها للناس؛ حيث تركت الجمعية للفرقة مطلق الحرية فى إجراء بروفاتها بمقر الجمعية الذى مازال فى مكانه إلى الآن، وهو بيت واسع يقع فى شارع جانبى يصل ما بين سليمان باشا وقصر النيل…

ويواصل بابا عبده: وبدأنا فى البروفات.. ورغم أن رأس مالنا لم يتجاوز ۲۰ جنيها إلا أنه كان كافيا لإخراج المسرحية، فليس هناك أجور للممثلين أو المخرج وإنما كل المصاريف كانت على المكياج.. كما أن ثروت عكاشة وزير الثقافة، وعبدالمنعم الصاوى وكيل الوزارة ساعدا الفرقة كثيرا؛ حيث سمحا لنا بتقديم عروضنا لمدة أسبوع كامل على مسرح الأزبكية فى بداية الموسم المسرحى.. وزاد كرم الوزارة عندما سمحت لنا باستعارة الملابس والديكور من مخزن الأوبرا القديمة.

نجاح الفرقة فى تثبيت أقدامها فى الوسط الفنى شجع المرحوم على فهمى أستاذ التمثيل على استضافة الفرقة بمعهد السينما الخاص الذى أنشأه على حسابه، وكان مقر المعهد فى العتبة…

 ويقول مدبولى: ترك لنا على فهمى حرية إجراء البروفات فى المعهد لأن المرحوم كان راجل شيك.. ولم تساعده المصروفات التى يدفعها الدارسون على إحياء المعهد مرة أخرى.. لكنه ساعدنا بقدر المستطاع حتى انتقلنا إلى مكان خاص بنا بميدان الأوبرا، وأصبح مقرا لنا.. وكان اختيارنا لهذا المكان لأن وزارة الثقافة وافقت على منحنا موسما كاملا بمسرح الأوبرا القديمة.

وأساله عن الأسلوب الذى اتبعته فرقة المسرح الحر لجذب الجمهور من المسرح القومى بكل عمالقته ومسرح إسماعيل ياسين والريحانى ويوسف وهبى المسيطرين على الساحة المسرحية.. فيجيب:

المسرح الحر كان جديدا فى فكرته وتكوينه، وبعد عرض المسرحية الأولى قررنا أن نتناول مضامين جديدة، وهذا ما جذب الجمهور إلى مسرحنا الجديد عليه شكلا ومضمونا.

كما استطاع المسرح الحر أيضا أن يعطى الفرصة للأقلام الشابة.. فقدم مسرحيات لأمينة الصاوی، ورشاد رشدی، ونعمان عاشور، وأنور فتح الله.. كما أتاح فرصة الإخراج لكثير من الممثلين.

نجاحى فى تقديم هذه الأعمال للمسرح الحر، لفت نظر إسماعيل ياسين.. فدعانی لأخرج له مسرحيتين متتاليتين هما “ثلاث فرخات وديك” و”أنا وأخويا وأخويا”. وكان ذلك فى موسم ١٩٦٥.. وكانت فرقة اسماعيل ياسين قد ضمت إليها أبطال وعمالقة مسرح الريحانى مثل محمود المليجى واستيفان روستي، وعبدالفتاح القصرى، وزينات صدقى، وكانت بطلة الفرقة.. وبدأت فرقة الريحانى تقتصر على مارى منيب وبعض الفنانين الأصغر سنا..

وقد أغرى نجاح فرقة المسرح الحر “أمين حماد” رئيس التليفزيون بالاستعانة بأعضاء الفرقة فى الأعمال التليفزيونية وتأسيس مسرح التليفزيون.. لأنه لم يكن من السهل الاستعانة بأساتذة المسرح القومى أو الحديث والتليفزيون فى بداية إرساله.. أيضا كان من الصعب على التليفزيون أن يستميل إسماعيل ياسين أو أبطال فرقته. لما كان يلاقيه من نجاح جماهيرى كبير فى تلك الفترة حتى أنه كان من نجوم شباك السينما.. وكل ذلك جعل أمين حماد يقول لنا عام ١٩٦٥: “اعملوا حسابكم مافيش مسرح حر”.. وتوقف المسرح الحر ليبدأ أبناء جيلى مشوارا جديدا من خلال مسرح التليفزيون.

 ابنته تحكى عن أيامه الأخيرة

ولكى نكون ألقينا الضوء على حياة هذا الفنان العبقرى سألنا ابنته إيمان:

عن أيامه الأخيرة، وعن علاقته بفؤاد المهندس فقالت: التقى والدى وعمو فؤاد عند تأسيس فرقة “ساعة لقلبك”، وكان معهما بعض الفنانين الذين أصبحوا نجوما فيما بعد، أمثال: أمين الهنيدى ومحمد عوض وعبد المنعم إبراهيم وخيرية أحمد وفؤاد راتب ومحمد أحمد المصرى “أبو لمعة” ومحمد يوسف “المعلم شكل”، بالإضافة إلى مدبولى الذى كان ملهم الفرقة ومشاركا مع يوسف عوف فى كتابة بعض نصوصها وصياغة شخصياتها.. واستمرار نجاح فؤاد مسرحيا وإذاعيا من خلال عروض فرقة ساعة لقلبك التى كانت تذيعها الإذاعة قبل ظهور التليفزيون.. ورغم نجاحها إلا أنها لم تستمر، ولكن بعد توقفها أسس والدى المسرح الحر الذى انضم فؤاد المهندس إليه. وشارك فى العديد من العروض المسرحية التى كان والدى يتولى إخراجها مثل..”المغناطيس”، “الناس اللى تحت”، “حسبة برما”، “الرضا السامى”، “خايف أتجوز”، وبدأ فؤاد يلفت إليه الأنظار وكانت هذه المرحلة من أهم المراحل الفنية فى مشواره الفنى لأنها المرحلة التى تبلورت فيها شخصيته كفنان كوميدى وفنان مسرح، وقد ساعدته موهبته الشديدة وقدراته الخاصة على الأداء الكوميدى، كذلك خلفيته الثقافية الواسعة الناتجة عن البيئة الثقافية والفنية التى نشأ فيها..

وتستطرد قائلة: عمو فؤاد كان يقول إن بابا يعلم مفاتيح شخصيته، واستطاع أن يضع يده على الكثير من ملامح شخصيته الفنية من خلال الأدوار التى كان يكتبها له ونصائحه وإرشاداته له كمخرج للمسرحيات والعروض التى كان يشارك فيها سواء فى فرقة المسرح الحر أو فى فرقة “ساعة لقلبك”.

وتضيف أمل: إن الاثنين كانت تجمعهما خفة الدم التى وصلت إلى مكالمات التليفون فكان بابا يقول له يا سعادة اللواء وهو يرد عليه وكيف حالك أنت يا سعادة المشير.. رغم أننا كنا نسكن بمنطقة العباسية فى أول شارع السرجانى من جهه اليمين وعمو فؤاد يسكن مع زوجته الأولى وأبنائه فى نهاية الشارع وكانوا يلتقون كثيرا..

وعن المواقف التى جمعتهما أثناء عملهما فى مسرحية “أنا وهو وهى” التى كان فيها عبد المنعم مدبولى مخرجا تقول: كان هناك مشهد يجمع بين فؤاد المهندس وشويكار فيه استلطاف على أنغام الموسيقى الهادئة فرفض فؤاد المهندس وجود الموسيقى على المسرح وأقنعه بابا ووافق، ويبدأ المشهد الذى يجمع فؤاد وشويكار على أنغام الموسيقى كما كان يريد بابا، وكان من أجمل المشاهد، بل إن المشهد كان بداية الإعجاب وعلاقة الحب التى جمعت بين فؤاد وشويكار وكللت بالزواج.

وعن الخلاف الذى كان بينهما تقول:

ترك والدى “الفنانين المتحدين” التى كان من ضمنها فؤاد المهندس، وبعد مرور عدة أعوام كان فؤاد المهندس يقدم للتليفزيون المصرى فوازير “عمو فؤاد”، وبسبب خلاف بين فؤاد المهندس ومخرج الفوازير طلب تغيير المخرج بعبدالمنعم مدبولى، وهو أمر ممنوع فى التليفزيون، فذهب المسئولون فى التليفزيون ليتفقوا مع بابا على عمل “جدو عبده” وقال لهم والدى لم أقبل العمل إلا بعد موافقة فؤاد المهندس، واتصل به ووافق فؤاد وعمل بابا (جدو عبده) ونجحت نجاحا كبيرا، فزعل فؤاد من بابا رغم موافقته، ثم بعد ذلك انتهى الخلاف وعادت المياه لمجاريها.

وعن أيامه الأخيرة قالت: أما الأيام الأخيرة فى حياته؛ فى عام 2005 بدأ يشعر بكبر السن، وبدأت صحته تتراجع وأصبح يعانى من أمراض الشيخوخة، فكان يجلس فى المنزل ولا يخرج إلا للضرورة، وعندما ساءت حالته تم نقله إلى مستشفى المقاولون العرب ولم يمكث به طويلا ليلقى ربه الأحد 9 يوليو عام 2006.

وفى عام 2003 كان فيلم “عايز حقى” مع هانى رمزى وهند صبرى آخر أفلامه وآخر ظهور له على الشاشة.