أحمد الخميسى يتحدث عن والده “القديس” في مقابلة هامة

عبد الرحمن الخميسى أحب أسمهان وكتب فيها قصيدة بعد رحيلها
رفض طلب عبد الرحمن الشرقاوى بالكتابة عن معتقلات عبد الناصر..وهذه حكايته مع الزعيم
المقلب الضاحك الذى دبره الخميسى ليوسف إدريس
تفاصيل مشهد الوفاء العظيم الذى قدمته سعاد حسنى لمكتشفها الخميسى
كان يبيع كلمات الأغانى من أجل أن يعيش.. وقصة الأغنية الشهيرة التى كتبها فى ثلاث دقائق فقط
سُمى عبد الرحمن الخميسى بالقديس لأنه أعطى عشرة جنيهات كانت كل ما يملك فى أربعينيات القرن الماضى، وكانت ثروة كبيرة وقتها لسائق حنطور نظير توصيلة لا تتجاوز أجرتها قرش صاغ.. هذا الرجل هو حالة خاصة واستثنائية فى الحياة الثقافية والفنية المصرية على مر تاريخها، فهو شاعر وقاص وكاتب أغانى وملحن موسيقى وممثل ومؤلف ومخرج وكاتب مسرحى وكاتب صحفى بل ومذيع.. كيف اقتحم الخميسى كل هذه المجالات.. وكيف تميز فيها.. وكانت له بصمته فى كل منها؟.. هذا رجل ومبدع استثنائى يحدثنا عنه باستفاضة تليق به وبتاريخه ابنه المبدع القاص والكاتب الصحفى الكبير أحمد الخميسى.
سألت الأستاذ أحمد الخميسى عن تفاصيل طفولة والده التى نعرف أنها كانت قاسية وصعبة فأجاب:
كل ما نعرفه عن طفولة الخميسى مستقى و مأخوذ من حكاياته هو عن هذه الطفولة، إضافة إلى حكايات شقيقاته البنات وحكايات بعض أقاربنا، وهو لم يكن يحب أن يتوقف كثيرا عند سنوات الطفولة، وأعتقد أنه كان يتفادى أن ينكا جرحا عميقا عن هذه الطفولة الصعبة..
ولد أبى فى بور سعيد.. والدته اسمها عائشة ابنة سيدة فرنسية فجدته لوالدته فرنسية لذلك كانت عماتى اللواتى عشن معها يتحدثن الفرنسية بطلاقة، وقد عاش هو مع والدته فترة قصيرة، وكان يحكى عن حياته القصيرة معها بإعجاب وانبهار، وكان يقول لى إن والدته كانت تقرأ له القصص من الكتب الفرنسية وتترجمها إلى العربية وأنها كانت تجعله يسمع الموسيقى على الفونوغراف، وقد رأينا صورة لها التقطت عام ١٩٣٠، وكان واضحا فى هذه الصورة أنها كانت سيدة عصرية وأنيقة.. ولهذا لم تستطع أن تعيش مع والده الفلاح الذى ينتمى إلى المنصورة.
حكى أبى أن والده جاء إلى بور سعيد ذات يوم، وكان ابنه عبد الرحمن فى السادسة من عمره واختطفه وأخذه إلى المنصورة حيث قضى هناك جزءا من حياته معه، وكانت حياة شاقة بسبب حرمانه من والدته، ولأن والده كانت علاقته ضعيفة جدا بالفن خلافا لوالدته فقد أحس بغربة معه فى بلدته دكرنس حتى أرسله إلى المدرسة الموجودة فى مدينة أخرى قريبة هى الزرقا، وهناك عاش وحده وهو طفل أو صبى صغير حتى مرحلة الثانوية العامة.. ولست أدرى كيف استطاع أن يعيش وحده فى هذه الفترة المبكرة من حياته لكنها تركت فيه أثرا عميقا وعلامتين مهمتين، أولاهما لجوؤه إلى الشعر كمنفس للتعبير من ناحية ثم شعوره العميق الذى لازمه طوال حياته بأن الإنسان يعيش وحده وأن على الإنسان أن يصارع القدر وحده..ذلك أنه لم يكن لديه ثقة فى أن يدا ستمتد إليه.
أيام الشقاء
ويواصل أحمد الخميسى: كان والدى وهو تلميذ يكتب الشعر، وحكى لنا مرة أن مدرس اللغة العربية حينما قرأ إحدى قصائده اتهمه أنه نقلها عن شاعر آخر، إذ لم يصدق أنه يمكن لشاب صغير أن يكتب مثل هذه القصيدة.. هو كان يكتب الشعر مبكرا. ومبكرا من المنصورة كان يراسل مجلتى الرسالة والثقافة، وكانتا من أشهر المجلات الثقافية آنذاك، وكانت قصائده تنشر على صفحات المجلتين، وقال لى فيما بعد إنه عندما جاء إلى القاهرة والتقى بالأستاذ أحمد حسن الزيات رئيس تحرير مجلة الرسالة لم يصدق الزيات أن هذا الشاب الصغير هو الشاعر الذى ينشر له قصائده وقال له بالحرف الواحد: كنت أظنك فى الأربعين من العمر..
سافر أبى من المنصورة إلى القاهرة قبل أن ينهى تعليمه الثانوى، وأعتقد أن جزءا من قرار سفره كان فى أعماقه راجعا إلى تجربة والدته أى النزوع إلى مكان أكثر تحضرا وإلى مكان عامر بأضواء الفن، وقد قال لى إنه عندما جاء إلى القاهرة لم يكن يعرف أحدا فى هذه المدينة الكبيرة.. وأنه كان ينام على الدكك فى حديقة الأزبكية المحيطة بتمثال إبراهيم باشا.. ويقضى ليله هناك وكان عشاؤه قليلا من الترمس أو الفول السودانى، وأذكر أنه حينما كنت طفلا صغيرا فى المرحلة الإعدادية أنه مر على فى المدرسة واصطحبنى إلى وسط البلد، ووقفنا أمام العمارة المواجهة مباشرة لتمثال إبراهيم باشا وصعدنا إلى شقة بالطابق الثالث، وقال لى لقد استأجرت هذه الشقة واستغربت كثيرا فهى تقع فى مكان لا هو تجارى ولا هو شعبى.. ووقفنا فى الشرفة ننظر إلى الشارع وإلى ميدان إبراهيم باشا وسألته: لماذا استأجرت هذه الشقة يا أبى فأشار بيده إلى الدكك المتناثرة فى حديقة الأزبكية وقال: استأجرتها لكى أنظر إلى شبابى لقد كنت أنام على هذه الدكك ليالى طويلة بلا عشاء أو أتناول قليلا من الترمس.
ويواصل أحمد الخميسى: كانت رحلة والدى إلى القاهرة صعبة بدأها بالتردد على المقاهى التى كان يجتمع عليها الأدباء والشعراء، وهناك كان يكتب الأغانى لمؤلفين مقابل جنيه أو جنيه ونصف الجنيه، وقال لى ذات يوم إنه هو الذى كتب أغنية محمد عبد المطلب الشهيرة بتسألينى باحبك ليه.. ومن هنا بدأ ينتزع رزقه، وبمناسبة كتابة الأغانى حين أصبح الخميسى مشهورا ومعروفا كنا نعيش فى شارع عبد الحميد سعيد بمنطقة شامبليون جاء بليغ حمدى لوالدى ومعه العود وطلب منه ٢٠٠ جنيه ليشترى هدية لوردة، فقال له والدى مش معايا ولا مليم لكن طالما معاك العود سنحل المشكلة وجاء بورقة وقلم وفى ثلاث دقائق فقط كتب أغنية ما تزوقينى يا ماما وأعطاها لبليغ، وقال له لحن هذه الكلمات واتصل بمها صبرى وعرض عليها الأغنية فرحبت، وذهبوا إلى الاستوديو فى نفس اليوم، وتقاضى بليغ أجره وتقاضى الخميسى جزءا من أجره، ولم يكن باقى المبلغ موجودا فطلب أن يأخذ به خمسة من جهاز البيك اب الذى توضع عليه الاسطوانات أهدى بعضها لطلبة معهد الموسيقى.. أعود إلى المرحلة السابقة وبداية إقامته بالقاهرة لأقول إن بيع كلمات الأغانى لم تحقق له ما يكفيه، فعمل فى محل بقالة وفى مطبعة إلى أن بدأت علاقته بالصحافة.
مكتشف يوسف إدريس
ينتقل الحوار إلى هذه المرحلة المهمة جدا فى حياة عبد الرحمن الخميسى وهى عمله بالصحافة وعنها يقول أحمد الخميسى:
هذه المرحلة بدأت عندما التقى الخميسى بالشاعر الكبير كامل الشناوى الذى كانت تربطه معرفة برئيس تحرير جريدة المصرى احمد ابو الفتح فرشح الخميسى له ليعمل بالمصرى.. ومن هنا بدأ الخميسى يُعرف وينتشر صحفيا ويواصل فى نفس الوقت طريق الشعر ليجد بشكل أو بآخر ما يكفيه من الناحية المادية.. التحق الخميسى بجريدة المصرى وكانت صوت حزب الوفد وصوت الحركة الوطنية،وفى المصرى جمعته علاقة صداقة وطيدة برئيس تحريرها أحمد ابو الفتح حتى أنه أسمانى على اسمه اسما مركبا أحمد أبو الفتح، فأنا اسمى فى الأوراق الرسمية أحمد أبو الفتح عبد الرحمن الخميسى، وكان يكتب بشكل أسبوعى ونشر آنذاك فى المصرى عمله الرائع ألف ليلة وليلة الجديدة، حيث أعاد صياغة ألف ليلة وليلة وحذف كل الكلمات الخارجة التى كانت فى النص الأصلى، وفى ألف ليلة الجديدة أفسح لإرادة الإنسان مساحة هائلة عكس النص الأصلى الذى لم يكن فيه أى دور للإرادة الإنسانية حسبما ذكر الناقد إبراهيم فتحى، ثم نشر أيضا على صفحات المصرى رواية اسمها الساق اليمنى، ومن ضمن إنجازاته فى المصرى إنه كان أول من نشر ليوسف إدريس، والحكاية تتلخص فى أن إدريس أرسل قصة إلى المصرى لم تقم إدارة التحرير بنشرها، فأخذها الخميسى وقرأها جيدا وأعجب بها وتوسم فى كاتبها مشروع قاص كبير واستثنائى.. ونشرها فى مقاله وقدم إدريس تقديما رائعا.. وحين أصبح يوسف إدريس واحدا من كبار مبدعى العرب قال فى حوار لمحمد المخزنجى، إنه من الأشياء الغريبة التى لاحظها أن الخميسى حين أطلت موهبة إدريس احتفى بها تماما، وكان نجوم القصة القصيرة وقتها الخميسى وسعد مكاوى ويوسف جوهر وعبد الرحمن الشرقاوى.. بينما كان إدريس وقتها بازغا وطالعا لعالم القصة القصيرة، وعلى حد قول إدريس فإن الخميسى لم يشعر بالغيرة بل على العكس (قدمنى وأفسح لى فرصة النشر).
وقد ظلت العلاقة قوية جدا بين الخميسى ويوسف إدريس.. علاقة كانت تتخللها مقالب يدبرها الخميسى لإدريس الذى لم يكن يغضب من صديقه رغم ما عرف عنه من سرعة الغضب..
وأذكر هنا هذا المقلب الذى دبره الخميسى ليوسف إدريس حين جعل سكرتيرته تتصل بإدريس وتقول له إنها معجبة بقصصه وأعماله، وأن اسمها رجاء وأنها من مدينة طنطا وجاءت القاهرة ليومين فقط، وترجو أن تراه وتجلس إليه، ورحب يوسف إدريس وأعطاها موعدا فى الساعة الخامسة عصر اليوم التالى فى كافيتريا أحد الفنادق الشهيرة، وذهب الخميسى إلى الكافتيريا فى الموعد المحدد، وجلس فإذا بيوسف إدريس يجلس وهو يتلفت حوله كثيرا فى انتظار الفتاة.. وجاءه الخميسى مصطنعا دهشة واستغرابا لمراى إدريس وهو يسأله..يوسف ايه اللى مقعدك هنا؟ فأجابه قائلا: أنتظر مستشرقا ألمانيا للاتفاق على ترجمة بعض أعمالى فنظر إليه الخميسى ضاحكا بصوت عال وقال له: مستشرق ولا رجاء اللى من طنطا وهنا ضحك يوسف إدريس وقد أدرك مقلب الخميسى وهو يقول له يعنى يا عبد الرحمن تنزلنى المشوار ده كله طيب اعمل مقلب غير ده.
عمق العلاقة بين إدريس والخميسى يجسدها مقال إدريس الحزين الموجع الذى كتبه فى رثاء الخميسى ونشره على صفحات الأهرام عقب رحيل صديقه الصدوق والذى يقول فيه: “كان الخميسى قويا عملاقا مقاتلا إلى ألف عام، وأول من حطم طبقية القصة، وكان فمه مفتوحا على آخره، مستعدا لابتلاع الحياة كلها بكل ما فيها من طعام وشراب وجمال، ابتلعته الغربة وإلى أربعة أركان الكرة الأرضية مضى يتسلمه ركن ليرفضه ركن، وهو قوى مقاتل وطنى عنيد، هذا الشاعر. المخترع. الموسيقى. الذى قهر من قهرنا جميعا، ومن بطط بحذائه الغليظ ثقافتنا وإنسانيتنا”.
الخميسى وسعاد
وإلى الاكتشاف الآخر الأهم فى السينما المصرية، وهو اكتشاف عبد الرحمن الخميسى لسعاد حسنى.. ويحدثنا أحمد الخميسى فى هذا الموضوع قائلا:
كان الخميسى منشغلا بفرقته المسرحية التى كونها عام ٥٨، وجمع فيها عددا من الشباب وأراد أن يبدأ بمسرحية هاملت لشكسبير، وفى هذا الوقت كان للخميسى شقتان بجوار قصر عابدين إحداهما للسكن والأخرى كمكتب له، وفى يوم نزل إلى الشارع وكنت أصحبه وأسير بجواره وإذا بشخص لا نعرفه قد استوقفنا موجها حديثه لوالدى قائلا: أنا عبد المنعم حافظ كنت أستمع وأستمتع بمحاضراتك عن الموسيقى بكلية آداب القاهرة، وأنا أسكن هنا إلى جوارك بحى الفوالة – وهو حى ملاصق لقصر عابدين- وأعزمكما غدا للغداء عندى فى بيتى ووصف لنا مكان البيت بالضبط، ورغم أن والدى لم يتعرف عليه إلا أنه وافق على دعوته من باب جبر الخواطر.
وفى اليوم التالى ذهبنا أنا وأبى إلى بيتهم وكان بيتا تبدو فيه كل سمات الفقر بشكل واضح، وكنا نجلس أنا وأبى على كنبة ويجلس على كنبة مــواجهة لنا عبد المنعم حافظ وزوجته السيدة جوهرة والدة سعاد، وبعد الغداء دخلت فتاة قصيرة نحيفة ترتدى ملابس متواضعة تحمل صينية الشاى وكانت هى سعاد حسنى، وأثناء الحديث مع عبد المنعم حافظ وجوهرة والدة سعاد نظر أبى إلى سعاد ثم عاد ونظر إليها ثانية وقال لهما: البنت دى هتبقى نجمة.. ولما خرجنا من بيتهم قلت لوالدى وأنا أعلم أنه مجامل هل ما قلته بشأن الفتاة مجاملة ؟ فتنهد بعمق وقال: لا والله يا ابنى البنت دى نجمة.. ونجمة كبيرة كمان، وبعدها بأيام جاء عبد المنعم حافظ إلى مكتب والدى وفى يده سعاد وقال له: أستاذ خميسى سعاد كانت بتمثل تمثيليات فى الإذاعة عايزين تشوف لها أى دور فى اى حاجة عندك، وكانت الفرقة المسرحية التى كونها والدى موجودة، فقال له والدى ماشى بس الأول خليها معانا فى المكتب تكتب على الآلة الكاتبة فبكت سعاد واندهش الخميسى وفسر حافظ بأن سعاد لا تعرف القراءة والكتابة.. ولأن والدى آمن بموهبة سعاد من البداية بعث لإبراهيم سعفان خريج دار العلوم والذى كان يعرفه جيداً ليعلمها القراءة والكتابة فتعلمت بسرعة ورشحها الخميسى لدور حبيبة هاملت فى المسرحية التى كانت ستعرضها فرقته، لكن الفرقة لم تكمل المشوار وإن كان الخميسى قد عمل بعدها مسرحيتى عزبة بنايوتى ونجفة بولاق لكن ليس فى إطار الفرقة.. المهم أنه حدث ما نعرفه جميعا بعد ذلك حين رشح الخميسى سعاد ومحرم فؤاد لهنرى بركات لبطولة فيلم حسن ونعيمة من تأليفه، وكانت تذاع كمسلسل إذاعى (كسر الدنيا) وأصر عليهما رغم اعتراض محمد عبد الوهاب صاحب شركة صوت الفن منتجة الفيلم.. ليطلق هذا الفيلم نجومية سعاد حسنى.. وهنا لا بد أن أذكر لسعاد وفاءها العظيم للخميسى فبعد خروجنا أنا وهو من مصر وسفرنا إلى لبنان بشهر واحد تحدثنا تليفونيا لوالدتى فى بيتنا بنوبار وقالت لنا بالحرف الواحد: جاءتنى سعاد حسنى تحمل حقيبة وسلمت وطبطبت على وفتحت الحقيبة وفرغت ما فيها على السرير، فإذا هى رزم كثيرة من أوراق نقدية وقالت لوالدتى خذى هذه الفلوس، ولما قالت لها والدتى الحمد لله مستورة فقالت لها سعاد: ما تنسيش أن كل ده من فضل الأستاذ الخميسى..وظللنا نحن أسرة الخميسى نتواصل مع سعاد حتى وهى تتلقى علاجها فى لندن فى أواخر حياتها، وأعتقد أن سعاد كانت ترى فى الخميسى كما رأت بعد ذلك فى صلاح جاهين.. الأب الذى حرمت منه فى طفولتها..
سألته: وهل أحب الخميسى سعاد حسنى؟
يجيب أحمد الخميسى: كان واضحا أنه يميل إليها ويحبها لكنه لم يفصح لأن فارق السن كان كبيرا بالإضافة إلى أنه كان لديه زوجتان وأكثر من عشرة أبناء.
فى بستان الخميسى
وأسأل أحمد الخميسى: كيف اقتحم عبد الرحمن الخميسى كل هذه المجالات الأدبية والفنية.. الشعر والقصة والسينما والمسرح والصحافة وكتابة الأغانى والتلحين بل والعمل كمذيع ليجيب: هو فعل ذلك بسبب طبيعة شخصيته القلقة ورغبته فى أن يجرب ما يريد وأذكر أن أحمد عبد المعطى حجازى ومحمد عودة زارا الخميسى فى بيتنا..فقال لهما اسمعكما الآن مقطوعة موسيقية من تأليفى وجلس على البيانو وبدأ يعزف، وكتب حجازى عن هذه الواقعة وأنه ليس مهما لديه إن كانت المقطوعة الموسيقية التى ألفها الخميسى ممتازة أو متوسطة لكن المهم هو جرأة الخميسى واقتحامه لكل المجالات..
وأعتقد أن عشق الخميسى للحياة كان أكبر من عشقه للأدب والفن خلافا لأدباء آخرين كان الأدب هو كل حياتهم.. فالأدب والفن فى رأيه جزء من الحياة التى ينبغى أن تمضى عريضة وممتعة.
وهنا أقول إن تجربة الخميسى فى الشعر مثلا كان ينبغى أن تجد الاهتمام النقدى الكافى، فقد ترك بصمة شعرية خاصة، وقد أوجز لويس عوض تجربة الخميسى الشعرية حين كتب أن الخميسى هو آخر الرومانسيين الكبار، وقد ميزت الروح الفردية الرومانسية شعره وهو ما يبدو واضحا فى قصائده العاطفية.. مثل نظمه
يا حلوة الثغر.. يا فتنة البحر
الحب لا يجرى.. إلا بمقدار
لكن عينيك.. وجمر خديك
فى مهجتى تزكى.. نارا على نار
ثم انظروا إلى هذه الأبيات الشعرية الموجعة التى يقول فيها:
لا تسيروا بها سراعا إلى القبر
لكن منكسين بطاء
ففى كل خطوة نحو مثواها
احتراقا لأضلعى وانطفاء.
سألته: هل تعرفون فى مَن كتب الخميسى هذه الأبيات؟
قال: لقد كتبها بعد رحيل المطربة والفنانة أسمهان، التى أحبها الخميسى حبا عذريا بعد أن رآها عدة مرات فى ستوديو مصر حين عمل موظفا صغيرا بالاستديو فى بداية إقامته بالقاهرة.. كان حبا عذريا خالصا من طرف واحد هو عبد الرحمن الخميسى.
ناصر والسادات والغربة
ينتقل الحوار إلى بعد سياسى وآخر إنسانى فى حياة عبد الرحمن الخميسى وأسأل أحمد الخميسى عن تجربة الاعتقال والعلاقة بعبد الناصر والسادات ثم الغربة فى حياة عبد الرحمن الخميسى ليجيب:
حين كان أبى يكتب فى المصرى قبل الثورة كان معروفا وكانت صورته تنشر مع مقالاته، وفى ذلك الوقت كان جمال عبد الناصر يقوم بالتخطيط للثورة، وكان يعرف كبار الكتاب، وذهب ذات يوم إلى مقر جريدة المصرى بزى مدنى للقاء أحمد أبو الفتح ولم يجده فى مكتبه، فذهب إلى مكتب الخميسى، وكان يعرفه من صورته التى تنشر مع مقالاته وسأله: أستاذ خميسى هو الأستاذ أحمد أبو الفتح فين؟ فقال والدى بسرعة: هو أنا استعلامات علشان تسألنى، وبعد الثورة التقى عبد الناصر بكتاب وصحفيى المصرى، ولاحظ الخميسى أن ناصر ينظر إليه كثيرا وتذكر تلك الواقعة التى جمعته به وسأل ناصر الخميسى.. أستاذ خميسى هو أنا شوفتك قبل كدة فقال الخميسى بسرعة بديهة غير عادية.. هو أنا كنت أعرف إنك هاتبقى زعيم ثورة.. وضحك الجميع.
ويضيف أحمد الخميسى: اعتقل والدى فى مطلع ثورة يوليو ثلاث سنوات..كان يجلس فى أحد المحلات الشهيرة بوسط البلد، عندما جاء شخصان وقبضا عليه وتم اعتقاله لأنه كان من المطالبين بعودة الديمقراطية، وكان على علاقة بالتنظيمات اليسارية، ووزع منشورا بعنوان لا لدلاس وزير الخارجية الأمريكى آنذاك.. وبعد خروجه من المعتقل كانت الملامح الوطنية لنظام ناصر قد بدأت تتضح مثل تأميم القناة والاتجاه نحو التصنيع، فلم يكن له موقف مضاد لعبد الناصر.. وعندما جاء السادات اختلف الوضع تماما.. وطفت على السطح رؤى أخرى مثل أن ٩٩ بالمائة من أوراق اللعبة فى يد الأمريكان ومثل سياسة الانفتاح وطرد الخبراء الروس فاتخذ موقفا مختلفا من نظام السادات.. وأذكر أنه عندما فتح السادات باب النقد للتجربة الناصرية والحديث عــن أخطــائها، ومن ضمنهــا المعتقلات والتعـــذيب، جــاء عبد الرحمن الشرقاوى إلى الخميسى وقال له يا عبد الرحمن أن السادات يعطى الفرصة لأن نتكلم عن تجربة اعتقالنا وعن التعذيب فى عصر عبد الناصر وأنا سوف أكتب وأريدك أن تكتب فقال له الخميسى هاشوف، وبعدها سألنى أبى وقال أنت مش صديقك صلاح عيسى وهو مؤرخ ومهتم بالتاريخ؟ فأجبته بنعم فقال لى أريد بعض الكتب التى تحدثت عن المعتقلات والتعذيب فى عصر عبد الناصر، وجاء صلاح عيسى بالكتب المطلوبة ونظر الخميسى إلى أغلفة هذه الكتب وصمت طويلا كأنه كان يفكر ثم نظر إلينا وقال..لا مش هاكتب لأنه حق يراد به باطل.
ويواصل أحمد الخميسى حديثه منتقلا إلى تجربة عبد الرحمن الخميسى فى الغربة قائلا:
كانت تجربة الغربة قاسية بلا شك بالنسبة لإنسان مصرى عاش فى الأحياء والشوارع والمقاهى المصرية، وعاش على الحكايات والحواديت والنكت المصرية، وقد سافرت معه، وأذكر ونحن نستقل الباخرة من الإسكندرية إلى بيروت.. إنه كان يستند إلى سور الباخرة وينظر ساهما إلى اخوتى وهم يودعوننا.. سافرنا إلى لبنان ثم العراق ثم إلى روما ثم استقر فى موسكو، وهناك كان الجو قاسيا فربما لا تظهر الشمس مرة واحدة طوال العام..والجالية المصرية بها قليلة العدد، وكان لأبى أصدقاء مصريون هناك مثل، الدكتور أبو بكر يوسف الذى ترجم أعمال تشيكوف، ومثل الدكتور ماهر سلامة وآخرون.. كنا نتبادل معهم الزيارات واللقاءات وكثيرا ما كنت أراه شاردا كأنه يرسل بصره إلى القاهرة وأسأله مالك يا با فيرد ببيت من الشعر
وللنفس حاجات وفيك فطانة.. يعنى لا تسالنى.. وفى أيامه الأخيرة كان يقول لى شيئا واحدا وبإلحاح يا ابنى لو مت أرجوك ادفنى فى المنصورة.. وهو ما حدث بالفعل حين دفناه فى مدخل المنصورة.. وقد كان يكرر دائما: يا أحمد أنا هارجع عصفور. هارجع عصفور محتاج شجرة.. أقف عليها..شجرة أغنى عليها فوق أغصانها.. وقد زرعنا بالفعل بجوار قبره شجرتين وكلما ذهبت لزيارته أنظر إلى أغصانهما علنى أرى هذا العصفور.