ديما الفاعوري: الذباب المصري.. غزو بيئي يكشف زيف الأمان الإسرائيلي

ديمه الفاعوري
في العادة، تمرّ الحشرات بصمت لا يُصغى لطنينها إلا حين تبلغ من الكثافة والضجيج ما يكفي لتحول حياتنا اليومية إلى فوضى، لكن ما شهدته إسرائيل مؤخرًا من اجتياح غير مسبوق لأسراب الذباب القادمة من الجنوب – في ما وصفه السكان بـ”الغزو المصري” – ظاهرة لافتة تستدعي الوقوف عندها للبحث في دلالاتها فهي حدث رمزي، سياسي، نفسي، بل ويكاد يختزل علاقة إسرائيل بجوارها العربي، لا سيما مصر، في لحظة حرجة من تحولات الإقليم.
في الأيام الأخيرة، اشتكى الإسرائيليون من أسراب كثيفة من الذباب يُعتقد أنها قادمة من دلتا النيل، نقلتها الرياح الجنوبية الحارة إلى منطقة “أور عقيفا” الساحلية، وهذا الذباب، الذي ينتمي لفصيلة “الدروسوفيلا” أو ذباب الفاكهة، ليس خطرًا في ذاته، لكنه نقل معه قلقًا أعمق: ماذا يعني أن يتحول الجنوب إلى مصدر تهديد بيولوجي؟ ومتى أصبحت الحشرات تتخطى الحدود بينما تعجز السياسات عن ذلك؟
المفارقة أن إسرائيل، التي بنت واحدًا من أعقد أنظمة المراقبة الحدودية في العالم، وأقامت جدرانًا وسياجات أمنية على حدودها الجنوبية مع مصر، لم تستطع أن تمنع الذباب من الدخول، وهنا، تحضر الفكرة الرمزية القاتلة: الجدران قد تحميك من “الإنسان”، لكنها لا تحميك من الطبيعة، ولا من تفاعلات الجغرافيا العميقة، ولا من نتائج الإهمال البيئي في الجوار، ولا من الرياح حين تحمل رسائلها العابرة للسيادة.
لقد حاول بعض الإسرائيليين تحويل الواقعة إلى نكتة سياسية حين قالوا إن الذباب أحد “ضربات موسى التي تأخرت”، بينما ذهب آخرون إلى تحميل السلطات المحلية مسؤولية “الشلل الإداري”، لكن الحقيقة أن الذباب، وهو أبسط مخلوق يمكن تصوره، أزاح الستار عن خلل مزدوج: داخلي يتمثل في سوء البنية التحتية وضعف الجاهزية البيئية، وإقليمي يكشف عن أن ما يحدث في مصر لا يبقى في مصر، بل يعبر الحدود – اقتصاديًا، مناخيًا، وحتى حشريًا.
ومنذ توقيع معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية عام 1979، ساد وهم طويل بأن العلاقات الرسمية بين البلدين قد خلقت منطقة “مستقرة” على الحدود، لكن الطبيعة لا تعترف بالسلام المكتوب، فالنظام البيئي المشترك بين جنوب المتوسط وشرقه أكثر ترابطًا مما توهمه السياسة، فإذا تدهور الواقع البيئي في دلتا النيل، أو فشلت خطط الصرف الصحي في بعض مناطق الريف المصري، فإن التأثير لن يبقى محصورًا محليًا.
الذباب هو العارض الأخير، لكنه ليس الأول، فقد سبقه تلوث البحر، وجفاف البحيرات، وتسرب النفايات الكيميائية، وحتى ظواهر زحف الجراد. السؤال الجوهري إذن: ما جدوى المعاهدات والاتفاقيات إن لم تكن مصحوبة بسياسات بيئية مشتركة وتنسيق علمي عابر للحدود؟
وفي عالمنا الحديث، أصحت السيادة تقاس بالقدرة على حماية الصحة العامة وضمان جودة الحياة الى جانب بالقدرة على نشر الجيوش أو إصدار القوانين، والذباب – في دلالته الرمزية – يُعلن فشلًا في فهم طبيعة السيادة الحديثة: سيادة المعرفة، سيادة البيئة، سيادة الوقاية.
من غير المبالغة القول إن الأزمة التي سبّبها الذباب تكشف ضعفًا مؤسساتيًا في إسرائيل، ليس لأن السلطات فشلت في صد الذباب، بل لأنها تجاهلت لفترة طويلة أنّ الجغرافيا أذكى من الجدران، وأن الأمن لا يبدأ على حدود الدولة، بل يبدأ في طريقة إدارتها للعالم الطبيعي، ولعلاقاتها البيئية مع جيرانها.
الذباب القادم من الجنوب وفقًا لباحثين هو نتيجة تراكب عوامل: تغير المناخ، فشل دول في تحسين بيئتها الداخلية، وانهيار أنظمة الرصد البيئي، وتراجع التنسيق الإقليمي، وكل ذلك يعيد تشكيل خريطة “الخطر” في المنطقة، لم يعد الخطر يأتي فقط من المقاتلين، أو من النزاعات المسلحة، بل من جرثومة، ذبابة، أو نسمة جنوبية.
بلغة أكثر حدة: الشرق الأوسط الجديد أصبح يعيش في عصر يتقاطع فيه كل شيء: البيئة مع الأمن، الحشرات مع الحدود، والجنوب مع الشمال. والدرس الكبير من واقعة “غزو الذباب المصري” لإسرائيل هو أن العالم الذي نعيش فيه بات هشًّا، والحدود التي نرسمها لأنفسنا قد لا تعني شيئًا حين تصحو الطبيعة.
الذباب لم يقل كلمته الأخيرة بعد، لكنه قال ما عجز البشر عن قوله: ما تفعله في بيئتك، سيلحق بك، ولو بعد حين…
كاتبة اردنية