محمد حُستِي: الفن وارتباطه بالذكاء الاجتماعي والقيم المتراجعة: تحليل لظاهرة El Grande Toto

حُستِي محمد
تشهد الساحة الفنية المغربية نقاشًا محتدمًا حول ظاهرة El Grande Toto، بعد مشاركته الأخيرة في الدورة العشرون لمهرجان “موازين-إيقاعات العالم” الذي نظم في الفترة من 20 إلى 28 يونيو 2025 بالرباط. ويصبو المنظمون إلى أن يشكل المهرجان حدثا ثقافيا لا يمكن تفويته بالنسبة للجمهور المغربي بكل أطيافه. لكن ما قدمه El Grande Toto من مضمون ساقط بعد حفله الأخير بمنصة السويسي بالرباط يفند أهداف ومساعي المنظمين ، طوطو الذي استقطب أعدادًا كبيرة من الشباب ليمتعهم بكلام هابط . والتساؤل المطروح على هذا التفاعل الواسع من هذه الشريحة الشبابية الكبيرة لا يمكن فهمه أو حصره في مجرد ظاهرة موسيقية عابرة ، بل هي مرآة ثقافية تعكس ربما واقع جيل يعيش تضاربًا قيميًا وسلوكيًا، ويحدد العلاقة بين الفن والوعي العام.
الفن: مرآة زمانه وبوصلة لمساره
– يُقال إن “الفن ابن زمنه”, لكن الأصح أيضًا أنه “بوصلة للزمن”.
إن الفن لا يكتفي بعكس الواقع كما هو، بل يفترض أن يكون فعلًا معرفيًا ونقديًا يُسائل هذا الواقع ويضيئه من زواياه المظلمة. ولا يُختزل الفن كذلك في نقل المعيش اليومي للفرد والجماعة ، بل يجب أن يرقى إلى تأويله وصياغته بما يكشف عن خباياه ويثير الأسئلة الجوهرية حول الإنسان، والمجتمع، والقيم، والزمن. وحين يُختزل الخطاب الفني في نقل مباشر للواقع، من دون حساسية جمالية، أو وعي أخلاقي، بدعوى “الواقعية”، فإننا نكون إزاء نوع من “التفريغ العاطفي واللغوي” أكثر مما نحن أمام فعل فني أصيل. فالمفارقة الصارخة اليوم هي أن بعض أشكال الفن، كالراب الحضري، ترفع شعار التمرّد، لكنها في الوقت ذاته تُعيد إنتاج خطابات السوق والاستهلاك والاستعراض بدل أن تُنتج وعيًا نقديًا أو تقترح بدائل جمالية ذات عمق إنساني.
لقد علّمنا كبار المفكرين من أمثال بيير بورديو وأدورنو أن الفن ليس بريئًا، وأنه دائمًا يتورط – شاء أو أبى – في صراع رمزي يتعلق بالسلطة، والهوية، والشرعية الثقافية. ولذلك، فإن ما قدمه فنان الراب طوطو ، حين وصل وحرك حساسية ملايين الشباب، لا يمكن اعتباره مجرد تعبير حر، بل هو ممارسة لها أثر تربوي وقيمي جانح ، بل حتى سياسي في عمقها، لأن الفن يصوغ الذاكرة، ويعيد تشكيل الوجدان.إن الانحدار الأخلاقي والتسطيح التعبيري الذي نراه في بعض هذه الأشكال الفنية المعاصرة لا يُبرَّر بحجة أن الفن مرآة المجتمع، لأن هذه المرآة، إن لم تكن مصقولة بالوعي الناقد ، قد تصبح سطحًا معتمًا يعكس التشوهات لا لإصلاحها، بل لترسيخها كواقع طبيعي مهزوم . من هنا تبرز أهمية الفن كـبوصلة ثقافية لا تكتفي بالوصف، بل تُمكّن من إعادة بناء المعنى، وتحرير الإنسان من الابتذال الرمزي والانفعال اللحظي.
فإذا كان الفن عند طوطو يُختزل في مجرد تصوير الحياة اليومية بألفاظ فاحشة أو صور عنيفة أو لغة محبطة، فإنه يفقد للفن إحدى أهم وظائفه الجمالية: الارتقاء بالوعي، وإثارة الدهشة الإيجابية، والمساهمة في تحصين الذات المجتمعية ضد الابتذال والسلبية. الفن، إذن، لا يُقاس فقط بالإقبال الجماهيري الكثيف ، بل بقيمة المضمون الموضوعي الخلاق الذي يترك أثرا دائما في الفرد والجماعات ، وبماهية ما يضيفه من عمق في إدراك الذات والآخر والعالم.
الذكاء الاجتماعي وأثره في الأجيال
يُعرّف دانيال غولمان (Daniel Goleman) الذكاء الاجتماعي بأنه القدرة على إدراك مشاعر الآخرين وفهم نواياهم ودوافعهم واستجاباتهم، والتفاعل معهم بطريقة فعالة ومتناغمة. وهو ما يُبرزه في كتابه Social Intelligence: The New Science of Human Relationships كيف أن الإنسان ليس كائنًا منطويًا على ذاته، بل هو “مُهَيّأ اجتماعيًا”، ويعمل – بحسب تعبيره – ضمن ما يشبه “باليه عصبي” (neural ballet)، حيث تتفاعل أدمغتنا في انسجام مع أدمغة الآخرين عبر منظومات دقيقة من المحاكاة والتعاطف. وضمن هذا الإطار، يصبح الفن فعلًا تواصليًا ذا أثر اجتماعي عميق، يتجاوز بعده الجمالي ليصير أداةً لإعادة تشكيل العلاقات الإنسانية والرمزية داخل المجتمع. فالذكاء الاجتماعي لا يُقاس بعدد المتابعين أو حجم الانتشار الجماهيري، بل بعمق التحوّل الذي يُحدثه الفن في الوجدان الجمعي، وبقدرته على تعزيز الحس التشاركي، والتعاطف، والتفكير النقدي في حياة الأفراد.
وبالتالي، فإن الفن الذي يتعامل باستخفاف مع الوعي الجمعي، ويُروّج لمضامين سلبية أو ألفاظ مبتذلة، يُضعف هذه الشبكة العصبية الاجتماعية التي تربط الأفراد بمجتمعهم ومحيطهم العاطفي والقيمي. أما الفن الذي يُفعّل الذكاء الاجتماعي، فهو ذاك الذي يُحرّك الإحساس بالغير، ويُثير الانتباه إلى الألم والفرح والمعنى المشترك، ويُساهم في بناء لغة تواصل تُحترم فيها الذات والآخر على حدّ سواء.
الفن والأخلاق الجمالية
طلاب مثل Theodor Adorno وHerbert Marcuse ناقشوا العلاقة بين الفن و”الأخلاق الجمالية”، مؤكدين أن الفن لا ينتزع من إنسانيته، بل يجب أن يكون مشروعًا يكرّم الإنسان .
حرية التعبير لا تعني السقوط تحت وطأة “تفاهة ثقافية” تُهدر قيم الإنسان وكرامته.
التناقضات السلوكية لدى الجيل الجديد
كل من غنّي بحماس مع El Grande Toto، هو ذاته من يصلي في رمضان، ويصطدم بظروف البحر الصيفي، ويشارك الفرح والألم بين حي الرياض ودوّار الحاجة، وربما يقترف أفعالًا خطيرة أحيانًا.هذه الازدواجية لا تخص أفرادًا منحرفين بعينهم ، بل تعكس واقع جيل عصري وسط خضم المعرفة والتكنولوجيا ، يعيش ضغوطًا وقيمًا متقلبة ، بين التقاليد البالية والانفتاح المتوحش ، بين الجهل المركب والوعْي الناقد .
رسالة للفنانين والجمهورللفنانين الشباب مثل Toto:
– أنتم شريحة قوية من التعبير، فوجهوا خطابكم الفني كرسالة لها قيم إنسانية تنهض بالوعي الجمعي بدل إسقاطه.
– وللشباب: أنتم ذخر الوطن بذوقكم الفني الراقي ، فلا تجعلوا من الفن مستودعًا للتفاهات والمتلاشيات ، بل ضعوا منه جسرًا للرقي قويا للروابط الاجتماعية الجيدة وللتسامح والاعتزاز بالذات والهوية المغربية .
بالفعل أنا لا أستمع إلى El Grande Toto، والبيغ، وسبعتون وغناء الراب في مضمونه وتمثلاته … كما أنني أستمع بوعي وبلهفة إلى محمد رويشة ، وحادة أوعكي ، محمد مغني ، وأحيدوس ، وأحواش والدمسيري وتاشينويت وتيحيحيت وثواثون والوليد ميمون وخالد إزري ونوميديا وعلال الشيلح والركادة والعيطة بكل تلاوينها ، وعبيدات الرمى، وبيتهوفن، وأم كلثوم، والحسين التولالي، لأن الفن الحقيقي الخالص لا يُقاس بالضجيج، والمضمون الساقط ،بل بما يتركه من أثر منصهر في وجدان وأحاسيس الإنسان وعقله، ومن إنارة روحية لمسار حياته.
وخلاصة القول في هذه الحادثة ، نحن في الحاجة إلى فن يرقى بوعي الإنسان المغربي ولابد لي كمتتبع للساحة الثقافية المغربية أن أُدلي برأيي في هذا النقاش المحتدم حول المغني El Grande Toto، ليس لأنني أبحث عن الاصطفاف ضد أو مع، بل لأن ما يحدث على الساحة الفنية المغربية اليوم يعكس تحولات عميقة في الذوق والحس الجماعي، وفي علاقة الفن بالقيم الإنسانية وبالذكاء الاجتماعي الراقي للمغاربة، لا سيما في صفوف شباب اليوم.
وما لا يدعو للشك أن الحشود التي تابعت حفله الأخير بمنصة السويسي بالرباط ليست أمرًا يمكن إنكاره أو تجاوزه ببساطة ، وهذا في حد ذاته يثبت أن طوطو استطاع أن يفرض حضوره و”أسلوبه” على فئة واسعة من الشباب التائه بين التيارات المتراكمة عليه . لكن هذا الحضور المكثف لا يمكن قراءته إلا من خلال منظور نقدي تقويمي عميق؛ فنحن لا نتحدث فقط عن موسيقى أو كلمات ساقطة وجانحة ، بل عن خطاب محرض يوجه إلى أجيال تعيش هشاشة اجتماعية ونفسية حادة ، وتيهًا قيميًا، واضطرابًا في علاقتها بذاتها وبمجتمعها.
فالفن، كما نعلم، هو ابن عصره ومن قلب مجتمعه ، ولكنه أيضًا أداة للمساءلة والنهوض والرقي. والسؤال القديم المتجدد: “هل الفن من أجل الفن أم من أجل قضية؟”، أصبح اليوم أكثر إلحاحًا في زمن تماهت فيه الحدود بين التعبير والتسويق، وبين الجرأة والانحطاط.
إن ما يقدمه طوطو – رغم كل مظاهره الجمالية والإيقاعية – لا يمكن فصله عن خطابه المليء بالسقوط اللغوي والقيمي، والذي لا يحترم ذكاء الجمهور المغربي. بل إن خطابه، في كثير من الأحيان، يروج لمفردات وتصورات لا تُبنى عليها هوية، ولا تقوم بها أخلاق، بل تغذي ثقافة اللامبالاة والانفصال عن الذات والآخر.ولعل الفنان الحقيقي يجب أن يكون هو من يحمل جمهوره إلى الأعلى والارتقاء يه ، لا من ينزله إلى الحضيض باسم التمثيل والحرية . والفن الذي لا يضيف شيئًا لوعي الإنسان، ولا يعزز احترام الذات، هو فن لا يؤدي سوى إلى توسيع دائرة العنف الرمزي والانحلال السلوكي.
– المراجع
Adorno, Theodor W. (1970). Théorie esthétique (Trad. Marc Jimenez). Paris: Klincksieck.
– المرجع الأصلي لنظرية “الأخلاق الجمالية” ودور الفن في مقاومة الثقافة الجماهيرية.
Adorno, Theodor W., & Horkheimer, Max. (1947). Dialectique de la raison. Fragments philosophiques. Paris: Gallimard, 1974.
– تحليل صناعة الثقافة، والتمييز بين الفن الاستهلاكي والفن النقدي.
Bourdieu, Pierre. (1992). Les Règles de l’art: Genèse et structure du champ littéraire. Paris: Seuil.
– تحليل الحقل الأدبي والفني كمجال رمزي يخضع لصراع السلطة.
Goleman, Daniel. (2006). Social Intelligence: The New Science of Human Relationships. New York: Bantam Books.
– تعريف الذكاء الاجتماعي وعلاقته بالتفاعل العصبي والوجداني بين الأفراد.
Marcuse, Herbert. (1964). L’Homme unidimensionnel (Trad. Jean-Michel Palmier). Paris: Éditions de Minuit, 1968.
– نقد المجتمع الصناعي والوعي المشوَّه تحت هيمنة الثقافة الاستهلاكية.