فهم اقتصاد إيران خلال فترة الحرب والعقوبات: دراسة تحليلية

فهم اقتصاد إيران خلال فترة الحرب والعقوبات: دراسة تحليلية

بقلم: محمود الحضري

بعيدًا عن الموقف السياسي من طهران إلا أن تجربتها الاقتصادية فيما بعد نظام الخوميني وإسقاط نظام الشاه قبل أكثر من 45 عاما أي لما يقارب نصف قرن تستحق الدراسة لكون هذا الاقتصاد ظل خلال هذه السنوات وما زال هو اقتصاد حرب تحت الحصار الدولي واستنبطت طهران اقتصادًا أكثر اعتمادًا على الذات.

تلك التجربة هي مثار اهتمام الباحثين وتحتاج لمزيد من البحث لتوظيفها في تجارب اقتصاد الأزمات، خصوصًا مع إقرار المرشد الأعلى “على خامئني” قبل نحو 20 عامًا “اقتصاد المقاومة”.

صحيح أن هناك أزمات لا يمكن نكرانها، ومؤكد هناك مشكلات ونقص في الديمقراطيات، والحريات وحالات تضخم وبطالة، وارتفاع في أسعار السلع، كما هو الحال في كثير من الدول، إلا أن التجربة مهمة للدراسة.

في هذه السطور نقرأ بعضًا من هذه التجربة اعتمادًا على ما هو متاح من معلومات في أكثر من عشر دراسات، وأرقام الجمارك الإيرانية.

زرت إيران عدة مرات، وخلال تلك الزيارة، وبعين الصحفي والباحث، كنت كل مرة مهمومًا بقضايا الناس، فالحياة تحت الحصار الاقتصادي، والعقوبات، حتمًا مختلفة، فالعلامات التجارية العالمية تكاد تكون مختفية تمامًا، إلا أن البدائل لها في كل مكان، وتلمح منها الكثير في الشوارع وفي الإعلانات، وهو عنوان عريض رغم وجود أزمات، يقول “نحن قادرون في التغلب على الأزمات”.

أزمة إيران مع العالم بدأت واضحة في جانبها الاقتصادي، منذ سقوط حكم الشاة في العام 1989، وانتقال السلطة في ثورة إلى حكم الدولة الإسلامية، تحت ولاية “خامئني”، ومنذ اللحظة الأولى في العام نفسه، حدث الصدام مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، وصدور قرار الرئيس الأمريكي آنذاك “جيمي كارتر”، بتجميد الأصول الإيرانية في البنوك والمؤسسات بقيمة 12 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم في هذا الزمن.

ومع مرور السنوات تأزمت الأوضاع الاقتصادية، لتبدأ سياسة العقوبات من 1984، لتعيش طهران تحت العقوبات بما في ذلك حظر بيع السلاح، والمواد الخام، والتكنولوجيا، ومع دخول مجلس الأمن في 2006، وبصدور القرار 1737، تم فرض عقوبات جديدة، مع بدء استكمال مشروعها النووي الذي بدأ في عصر الشاه، وكانت إسرائيل حاضرة في الدفع بمزيد من العقوبات على إيران.

تأثرت إيران كثيرا بالعقوبات، ففي دراسة حديثة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أعدتها الباحثة مريم هاني، تشير إلى أن صادرات النفط، وهي المصدر الأساسي للاقتصاد الإيراني، خفضت الصادرات من 2.5 مليون برميل يوميا إلى أقل من مليون، بخلاف تأثرات إلغاء تعاملات إيران عبر نظام التراسل المصرفي “سويفت”.

والمتتبع للاقتصاد الإيراني في طيلة سنوات العقوبات والحصار الأمريكي العالمي، والذي يدخل عامه الـ46 هذه الأيام، سيلحظ، أنه ورغم حدوث انفراجه مع تطبيق خطة العمل الشاملة مع أمريكا وأوروبا، إلا أن قيمة الأصول المجمدة تجاوزت الـ100 مليار دولار في 2015، ولكن بعد إعلان الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في ولايته الأولى وفي عام 2018، انسحاب بلاده من خطة العمل الشاملة، وانسحبت الشركات الكبرى من إيران خصوصا في مجال صناعات الأدوية والسيارات والمركبات، والصناعات الغذائية والتعدينية، وغيرها.

وفي هذا الإطار العام، في دولة لديها طموحات محلية وإقليمية، وتسعى لتصبح لاعبًا دوليًّا وإقليميًّا، مع وجود أعداء لها، خصوصًا من جانب الكيان الصهيوني، مع اقتصاد يعاني من أزمات طاحنة، فكان الحل هو التوجه إلى ما تم تسميته بـ “اقتصاد المقاومة”، والذي وضع هدفًا رئيسيًّا له هو تعزيز مفاهيم “الاكتفاء الذاتي”.

لم يكن هناك مفر أمام إيران إلا البحث عن موارد ذاتية، تقلل من خلالها الاعتماد على الخارج، مهما كان الثمن، ومن بين مفردات “اقتصاد المقاومة”، صناعة تكرير النفط، لإنتاج المحروقات محليًّا، دون الحاجة لاستيراده، وهذا ما تم في مجال البنزين، بإنتاج ما يكفي السوق المحلي، مع فائض للتصدير، مع تحقيق معدلات إنتاج مماثلة في الغاز، والأدوية، والمعدات العسكريّة، وفي المحاصيل الغذائية الرئيسية خصوصًا القمح.

في ظل هذا هناك طموح نووي إيراني واسع النطاق، تم استثمار مليارات الدولارات فيه، مع بناء منظومة عسكرية، ودفاعية واسعة، النطاق، تعتمد على خبرات وتمويل محلي، عبر تعظيم البحث العلمي.

“اقتصاد المقاومة” في إيران تطلب إصلاحًا شاملًا للدعم الغذائي وفي مجال الطاقة، تحمل المواطنين العبء الأكبر منه، وفي الوقت نفسه كان من المهم البحث عن شركاء تجاريين جدد، وهو ما فتح مجالات لتعاملات تجارية مع الصين، والهند، وتركيا وباكستان، وأفغانستان، والعراق، بخلاف تعظيم العلاقات مع دول الخليج العربي في القطاع التجاري، لتصبح إيران من أهم الشركاء التجاريين، مع تطبيق، سياسة “النفط مقابل السلع”.

ووفق الأرقام الرسمية، فقد بلغت تجارة إيران غير النفطية في 2024 نحو 130.2 مليار دولار، بزيادة 11.3%، منها 57.8 مليار صادرات، بزيادة 15.6%، و72,3 مليار وارادات بارتفاع 8.2% عن العام الأسبق.

وفي اقتصاد المقاومة، أصبح التقدم العلمي هو الطريق للتنمية المحلية والإنتاج المدني والعسكري، وتغلبت طهران خلال أزمة “كوفيد” على العقوبات بإنتاج لقاح محلي، ومن خلال البحث العلمي، أنتجت الطائرات المسيرة، والأقمار الاصطناعية، للاستخدام المحلي، وللتصدير، خصوصًا مع اعتماد العلوم التكنولوجية كجزء رئيسي من خطة التنمية 2016 – 2021.

وحتمًا الصورة ليست بهذا الجمال، فلكل شيء ثمن، واقتصاد المقاومة مع وجود العقوبات ترك أعباء على الاقتصاد، وصحيح أنه قد تحقق نوعٌ من الاستقرار، إلا أنه لم يحدث نمو ملحوظ ولم يتجاوز في الإنتاج المحلي 3.4%، فيما ارتفعت أسعار المستهلكين 37% في السنوات الأخيرة، وبلغ التضخم 45%، وتراجعت قيمة العملة الإيرانية (التومان) إلى 42 ألف تومان مقابل كل دولار، وارتفعت البطالة إلى 25%، مع تراجع كبير في الاستثمار الخارجي، وزيادة معدلات الفقر.

الاقتصاد الإيراني في ظل الحروب التي تدعمها وتقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية، مع عقوبات وحصار اقتصادي ضخم، تجربة تستحق أن تخضع للبحث والتحليل، ويظل مفهوم “اقتصاد المقاومة”، محاولة للصمود رغم الثمن الباهظ على المواطنين.