رياح الموسم ونمو التجارة في أفريقيا

ارتبطت السواحلُ الممتدة التي تقع ضمن بلاد شرق أفريقيا بالعديد من المُقومات الطبيعية التي ساعدت بشكلٍ أو بآخر على دوام الحركة والنشاط التجاري بين التجار والبحارة الـوافدين سواء من ممالك شرق أفريقيا من ناحية، أم من بلاد جنوب شرق آسيا من ناحية أخرى. وتعد الرياح الموسمية من أهم تلك المقومات والعوامل التي ساهمت في ازدهار التجارة بين بلاد شرق أفريقيا، وتحديدا الممالك والإمارات العربية التي تأسست في هذه البلاد من ناحية، والبلاد الأخرى المجاورة لها لاسيما على السواحل الآسيوية والخليج العربي..الخ.
لقد لعبت الرياح دورا مهما في ازدهار النشاط التجاري عبر موانيء وسواحل بحر الهند عامة، وسواحل شرق أفريقيا بشكل خاص، لاسيما نوع من الرياح كانت تهب مرتين في السنة، في الشتاء وفي الصيف، ومن ثمة كان يطلق على تلك الرياح تسمية الرياحُ الموسمية Seasonal Winds، وهي الرياح التي لعبت دوراً كبيرا في حركة التواصل التجاري والحضاري بين كل من سكان شرق أفريقيا والسكان في بلاد جنوب شرق آسيا منذ أقدم العصور، هذا رغم الصعوبات والمخاطر التي كانت تُشكلها تلك الرياح التي كانت تهب على السفن والمراكب التي كانت تعبر “بحر الهند”، وكانت تحمل على متنها أعدادا كبيرة من التجار والبحارة، وغيرهم من المسافرين.
إلا أنه من اللافت أن السكان في هذه البلاد تعلموا دونما ريب من خلال تجاربهم العديدة التي مروا بها عبر السنين في الإبحار بين أمواج هذا البحر الهائجة خلال أكثر أوقاتها، ومن ثم فإنهم أدركوا كيفية الاستفادة من هذه الرياح القوية، وأن يُطوعوها لخدمة تجارتهم، وبحيث لاتُسبب لهم عائقاً أو حائلا بينهم لمزيد من التواصل بين السكان في مناطق أقصى الشرق (الساحل الآسيوي) وأقصى الغرب الساحل الأفريقي) .
من ناحية أخرى، يُطلق على تلك الرياح القادمة إلى الأسواق والمدن التجارية الواقعة على سواحل شرق أفريقيا تسمية الرياح الموسمية الشتوية ، وذلك لأنها كانت تهب على هذه البلاد في موسم الشتاء أو الخريف، ولهذا عرفت الرحلة هناك بأنها رحلة الشتاء، بينما كانت تهب تلك الرياح في فصل الصيف نحو الشرق وسواحل بلاد جنوب شرق آسيا (رحلة الصيف). يذكرُ المسعودي أن البحارة في هذه البلاد كانوا يعرفون آوان هبوب هذه الرياح، ووقت قدومها بحكم التجربة، والعادة بفضل دوام التواصل التجاري بين أسواق آسيا في الشرق والأسواق الأفريقية في الغرب، من ثم فإنهم كانوا يتوارثون معرفة ذلـك فيما بينهم، ولهم في هذه معارف كثيرة ودقيقة بأمر تلك الرياح.
كانت تلك المعارف تنتقل بين الأجيال لاسيما من عائلات التجار والبحارة الذين ارتبطوا بتجارة المحيط الهندي، ولهذا كان من الطبيعي أن تكون لهم بأوقات هبوب تلك الرياح (الموسمية) علاماتٌ وإشاراتٌ يعملون بها إبان هبوب تلك الرياح . وبناء على ذلك كانوا يحددون الوقت المناسب لبدء رحلاتهم البحرية بين الساحل الأفريقي حيث بلاد الزنج، والساحل الآسيوي حيث ساحل عمان وباقي بلاد جنوب شرق آسيا. وعن الرياح الموسمية، وأهميتها، يذكر المسعودي (ت: 346هـ): “ولكل من يركب هذه البحار من الناس يعرفونهـا في أوقاتٍ تكون منها مهابّها قد عُلم ذلك بالعادات، وطول التجارب، يتوارثون علم ذلك قولاً، وعملاً، ولهم فيها دلائلٌ وعلاماتٌ يعملون بها إبان هيجانه، وأحوال ركوده، وثوراته. هذا فيما سمينا من البحر الحبشي والرومي، والمُسافرون في البحر الرومي سبيلهم، وكذلك من يركب بحر الخزر الى بلاد جرجان، وطبرستان، والديلم..” .
د. إسماعيل حامد