الحصادي: فيلسوف استقبل التساؤلات وتحلق بعيدًا عن قيود القاعة

الحصادي: فيلسوف استقبل التساؤلات وتحلق بعيدًا عن قيود القاعة

لم يكن الدكتور نجيب الحصادي (1952-2025) متماهياً مع القالب الأكاديمي بطابعه الوظيفي بشكل كامل لكنه زاوج بين الروح الأكاديمية والفاعلية الثقافية خارج إطار الجامعة عبر الندوات والمحاضرات وورش العمل، كما أن مساهماته في الترجمة والكتابة عبر مؤلفاته (تقريظ العلم ومعيار المعيار وقضايا فلسفية وحساسات التفكير الناقد، وغيرها) لا تنحى إلى الصيغة المنهجية الصرفة بقدر ما تأخذ نسقاً وسيطاً بين الطرح النخبوي والشرح العام الذي يتعاطى مع الدارسين والمهتمين بشؤون الفلسفة والترجمة.

فلترة وإسناد معرفي
لا يمارس الحصادي دوره الثقافي بانتقاده الحاد للمظاهر والسلوكيات أو الطرق بعنف على أبواب التخلف واختياره مثلا لأسلوب الصوت العالي في توجيه الرأي العام، أو تبني كتابة مستفزة لاستنهاض عناصر الوعي، كل ذلك لا ينتمي لتكوين الحصادي الهادئ وشخصيته التي تأنس للتأمل واستنطاق مفاهيم عامة والوصول بها إلى فلترة تقتفي توصيف الحالة بلا استطراد وإسنادها معرفيا بكل ما يلزم لتأكيد وجهة نظره، ولعل الحصادي وفق هذا السياق جهد كثيرا خصوصا خلال السنوات الأخيرة في توظيف هذا الأسلوب للبحث عن مكامن القصور المعرفي فيما يخص المفاهيم والمصطلحات التي ولدتها مراحل العقد الأخير وكان مسكوتا عن بعضها كالهوية والدستور كما لامس بحسه التحليلي شواغل المشهد الثقافي والجامعي.

يؤكد الحصادي على الدوام انحيازه للعلم وتحديدا لمنجم الأسئلة «الفلسفة»، ففي حديثه عن دور العلم والفلسفة في تكريس التعايش السلمي ينتصر الحصادي للأخيرة في كونها الأنجع في معالجة العطب الحاصل في منظومة المجتمع القيمية فلا مناص من توسل التفكر الفلسفي أداة للتأصيل ونشر الوعي وتقويض الافكار السائدة والبنى الحاكمة.

الهوية والتفكير الريبوي
وعلى صعيد المفاهيم يرى الحصادي في مقاربة فلسفية للهوية أنه مع تعدد الانزياحات الدلالية للفظة الهوية عبر الزمن أمست في النهاية بعدا سوسيولوجيا ثابتاً فهي تكتسب عبر التنشئة الاجتماعية وتنتج خلال التفاعلات المتبادلة بين شرائحها.
ويصل إلى أن للهوية تأصيلات متنوعة أبرزها التأسيس الاثني المفاضل بين أجناس البشر والتطوري الذي يعتبرها آلية دفاعية من أجل البقاء وكذا التأسيس الثقافي الذي يعلي من شأن تعددية الهويات ثم التأسيس اللاهوتي الذي يعتبر الدين أصل كل هوية لكنه في مقاربته للإشكالات المتعلقة بدوائر الهوية ينوه إلى أنه غالبا ما يفصح أشياعها ومناصروها (الهوية ) عن ولائهم للتسامح والاختلاف لكن ثقافتهم تخون فيما يبدو ولاءهم ذلك أن الهوية لكونها انتماء إلى خلق إنما تضمر تخليا عمن لا ينتمي إليه.

وعلى مسار متصل بالتأسيس الريبوي الذي تحدث عنه الحصادي في كذا محفل يرى إنه حتى في مجال الالتزام بمعايير الموضوعية والحياد وفرض اشتراطات منهجية صارمة على عمليات التحقق، ثمة اتفاق بين فلاسفة العلم على استعصاء إن لم يكن استحالة إثبات أي نظرية على أخرى، وهي الحجة التي يتكئ عليها الحصادي في قراءته لهذا التأسيس.

ضعف الأداء البحثي
وفي تفصيل آخر عن إشكالات الواقع الأكاديمي وعلاقته بالمشهد الثقافي يتحدث الحصادي عن العوامل المشتركة بين أسباب ضعف الأداء الفني والبحثي في بلادنا في ملامسة لجانب من جوانب الفجوة بينهما، فهو يشير إلى وجود شبه قطيعة بين المؤسسات الفنية والأكاديمية وبين الفنانين والباحثين، مستشهدا بنسبة الأكاديميين الذين يحضرون أنشطة فنية ونسبة الفنانين الذين يحضرون أنشطة أكاديمية، مضيفا أن المواهب الفنية في ليبيا كثيرة لكن عدد الفنانين الباحثين قليلة، وأن الباحثين الأكاديميين كثر، لكن الروح الإبداعية تعاني من وهن واضح معللا ذلك بغياب عادة القراءة لدى الشريحتين.

وحتى بتوفر شرط القراءة فإن قراءاته لا تترجم في أعماله وغالبا ما تنحصر في مجاله، على الرغم من أن قراءة الأدب وعلم النفس والقانون والتاريخ والسياسة والاقتصاد والأنثروبولوجيا والفلسفة، مصادر خصبة لمختلف صنوف الفن والبحث العلمي على حد سواء. ثم يعلق الحصادي: «من لا يعتاد القراءة فهو أقرب إلى فقره للغة أجنبية وبالتالي يورثه هذا العور قطيعة مع فنون وآداب وعلوم الأمم الأخرى ووجهة نظرها في العالم والحياة».

ويأسف الحصادي أنه على الرغم من مضي ستة عقود ونصف على إنشاء كلية القانون في الجامعة الليبية لم يترجم أي باحث ليبي أي عمل في علم القانون، وعلى الرغم من مرور سبعة عقود على إنشاء قسم الفلسفة فإن عدد ما ترجمه زملاؤه في أقسام الفلسفة لا يُعد على أصابع اليد الواحدة، والأسوأ من هذا افتقاد فنانينا وبحاثنا إجادة اللغة العربية.

الحصادي ومسودة الدستور
ضمن فعاليته المجتمعية ظل نجيب الحصادي يحضر بقوة في عديد ورش العمل واللقاءات المتعلقة بالشأن الليبي خصوصا ما يمس المستقبل السياسي وأهم قواعده المؤسسة وهو الدستور ومن بين تلك الفعاليات حديثه في ندوة حول المسار الديمقراطي الليبي وخطة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا المنعقدة 18 أكتوبر 2017 مناقشا بنود الدستور المقترح أمام الدساتير العالمية بداية من مساره في مسودة صلالة حتى زمن الحوارية، وأشار الحصادي في هذا السياق إلى عنصر مهم وهو تبني اللجنة ما أسماه الحصادي المشترك الإنساني لكونه أوسع قليلا من القالب الدستوري فهو يشمل الدساتير العالمية ويشمل أيضا العهود والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان.

– «رحيل لا يُنسى».. مجمع اللغة العربية الليبي يودّع الفيلسوف نجيب الحصادي
– «وسط الخبر»: نجيب الحصادي.. منارة الفكر التي لا تنطفئ
– سفارة أميركا تنعى نجيب الحصادي: مسيرته الأكاديمية أكسبته إشادة واحتراما كبيرين
– «البعثة الأممية» تنعى الحصادي: نموذج للمثقف النزيه وصوت للاعتدال والتسامح
– أوساط أكاديمية وفكرية تنعى الدكتور نجيب الحصادي

يقول الحصادي: ثم اكتشفنا أن هذا المعيار لا يكفي لأن الدستور الوطني قد ينأى عن المشترك الإنساني لخصوصية ثقافية فأضفنا معيارت آخر وهو الخصوصية الثقافية، ثم رأينا أن بعض بنود المسودة قد تكون مرتبطة باستحقاقات انتقالية فتنأى عن الاثنين فكان ذلك معيارا ثالثا وأضفنا معيارا رابعا وهو دقة السياق.

يخلص الحصادي في هذه الحوارية إلى استنتاج بعض الملاحظات حول عمل اللجنة التأسيسية معلقا: الخطأ القاتل الذي ارتكبته الهيئة هو أن كل عضو يعبر عن رأيه الشخصي وفي أفضل الأحوال عن اتجاهه السياسي وفي أسوأها عن منطقته والشيء الوحيد الذي لم يرد في بال أحدهم أنه لا وجود لمادة دستورية من حيث الصواب أو عدمه لأن المعيار هو موافقة المستفتيين، وبالتالي نفترض أنك فيدرالي وتعتقد أن الفيدرالية هي الحل لليبيا وأنت تمثل مدينة ما يبقى سؤالك الأساسي: إذا ما وضعنا النظام الفيدرالي كمقترح في الدستور كم ستكون نسبة الموافقة عليه وهو السؤال الرئيس وليس نسبة من تمثلهم.

ويواصل الحصادي: نعلم جيدا أن هناك توافقات معينة أنقذت مشروع الدستور لكن المؤسف أن المستفتي غير معني بهذه التوافقات فهو أمام نص فيه عيوب نتيجة للأسباب التي ذكرتها.

مثقفون وأكاديميون ينعون المفكر الليبي
وفقدت ليبيا أحد أبرز مفكريها، ونعى مثقفون وأكاديميون المفكر الليبي الكبير د. نجيب الحصادي الذي رحل صباح الخميس الماضي عن 72 عاماً في الأردن بعد تشخيص إصابته بسرطان الرئة.

وقالت «الجمعية الفلسفية الليبية» في منشور على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» إن «الحصادي قامة فكرية وأكاديمية نادرة، وعلم من أعلام الفلسفة والمنطق والبحث العلمي في ليبيا والعالم العربي».

أضافت «كان علامة فارقة في المشهد الثقافي الليبي، ومثالا للخلق الرفيع والالتزام العلمي، ومنارة أضاءت طريق أجيال من الباحثين والمفكرين. رحل من كان رمزا للفكر المستنير، وموسوعة تمشي على الأرض تواضعا وجمالا».

أما مجمع اللغة العربية فنعى «القامة العلمية العالمية، والفكرية السامقة»، فيما أشارت الهيئة الليبية للبحث العلمي إلى «بصمات الحصادي الواضحة في مجالات الفلسفة والعلوم الإنسانية، ومساهمته بعطائه في بناء أجيال من الباحثين والمفكرين».

غلاف كتاب تقريظ العلم للحصادي. (أرشيفية: الإنترنت) غلاف كتاب معيار المعيار للحصادي. (أرشيفية: الإنترنت) غلاف كتاب معيار المعيار للحصادي. (أرشيفية: الإنترنت) غلاف كتاب حساسات التفكير الناقد للحصادي. (أرشيفية: الإنترنت) غلاف كتاب حساسات التفكير الناقد للحصادي. (أرشيفية: الإنترنت) غلاف كتاب أرسان الروح للحصادي. (أرشيفية: الإنترنت) غلاف كتاب أرسان الروح للحصادي. (أرشيفية: الإنترنت)