مساعدات على شكل تهجير: من يقف وراء كتابة فصول المأساة في غزة؟

مساعدات على شكل تهجير: من يقف وراء كتابة فصول المأساة في غزة؟

ما كشفته صحيفة “فاينانشيال تايمز” ليس مجرد تحقيق استقصائي، بل وثيقة إدانة تاريخية تضع العالم، من بوابات الأمم المتحدة حتى كواليس وول ستريت، أمام خيارين: إما الصمت المخزي، أو وقفة شرف تُنقذ ما تبقى من أخلاق السياسة الدولية.

أن تتورّط شركة أميركية عملاقة مثل “بوسطن للاستشارات” (BCG) في رسم خرائط تهجير جماعي للفلسطينيين من غزة، ليس “سوء تقدير” كما زعمت في بيانها المتأخر، بل هو تخطيط محسوب لتصفية ديموغرافية بأدوات السوق والاستثمار. المال هنا ليس وسيلة إعمار، بل أداة اقتلاع جماعي مغلفة بـ”حزم تحفيزية” تبيع الفلسطيني أرضه مقابل فتات 9 آلاف دولار!

مشروع “أرورا” ليس فكرة شاذة خرجت من عقل موظف مهووس. نحن أمام بنية متكاملة، جمعت الاستشارات المالية، والمقاولات الأمنية، والشركات الاستثمارية، وحتى الجهات “الإنسانية” المموّلة، في منظومة إحلال سكاني خطير تستند إلى منطق استعمار حديث: لا حاجة للجيوش إن أمكنك شراء الأرض بمن عليها، أو إغراقهم بالجوع حتى يُجبروا على الرحيل.

هل يُعقل أن يتم هذا كله تحت عنوان “الإغاثة الإنسانية”؟!

أن تتحول نقاط توزيع المساعدات إلى مراكز قنص وإبادة؟ أن يُقتل المئات تحت حراسة متعاقدين أميركيين داخل مؤسسة تُدعى “مؤسسة غزة الإنسانية”؟!

هذا ليس خطأ. هذه جريمة موصوفة ترتقي إلى مرتبة الإبادة الجماعية بغطاء مدني.

ومن المخزي أن تستمر بعض الجهات الدولية في التعامل مع هكذا مؤسسات دون مراجعة أو محاسبة.

انسحاب BCG من المشروع، بعد أن انكشفت الوثائق واشتد الضغط، لا يُعفيها من المسؤولية الأخلاقية ولا القانونية. البيان المرتبك الذي أصدرته الشركة، وطرد بعض موظفيها، هو محاولة لغسل اليدين من دمٍ فلسطيني سال بسبب “نماذجهم المالية” وخرائطهم الديموغرافية.

لكن السؤال الأهم:

كم شركة أخرى تنشط اليوم تحت لافتة “الاستشارات” بينما ترسم خريطة ما بعد النكبة؟

وكم مؤسسة إنسانية يجري توظيفها كأداة ضغط لإجبار السكان على النزوح، طوعًا أو قتلًا؟

ما يجري في غزة لم يعد مجرد حرب. إنها معركة وجود أمام ماكينة عالمية تجمع القوة الصلبة (القصف والقتل) مع القوة الناعمة (الجوع والدفع نحو الرحيل). إنها محاولة استكمال نكبة 1948 بأساليب ما بعد الحداثة.

لكن على هؤلاء أن يعوا أمرًا واحدًا:

غزة ليست ورقة على طاولة شركات، ولا شعبها رصيدًا يمكن نقله من حساب إلى آخر.

غزة، رغم الجوع والقصف، لا تزال ترفع راية الوجود، وترفض كل خرائط الإلغاء.

ومن يراهن على أن المعونات قادرة على شراء الإرادة الفلسطينية، فقد أساء قراءة التاريخ، وأسوأ منه… من صدّق بأن الفلسطينيين سيقبلون بيع الذاكرة والهوية مقابل 9 آلاف دولار!