سيدة قلب “أمير التلاوة”: قصص وخفايا من حياة القارئ محمود علي البنا

في كتابه “غرام المشايخ”، يكشف الكاتب أيمن الحكيم جانبا مختلفا من حياة كبار قراء القرآن في مصر، جانبا إنسانيا حميما قد لا يعرفه جمهورهم العريض، حيث يتجاوز الصوت الرخيم وسرادقات العزاء، إلى بيوت هؤلاء المشايخ، وقصص حبهم وعلاقاتهم الأسرية.من بين ما وثقه الكتاب، تأتي حكاية الشيخ محمود علي البنا، أحد أعمدة دولة التلاوة في القرن العشرين، وعلاقته بزوجته “سيدة” التي كانت، كما يروي مقربون، سيدة قلبه ورفيقة دربه وسر سكينته، حتى إن حكايتهما معا بدت كأنها قصة حب خالدة كتبت بالوفاء والدموع.
يقول الحكيم: في كل بيت من بيوت قراء القرآن الكبار، تجد أن لكل منهم سورة معينة تميز بها، ارتبط اسمه بها وارتبطت هي بصوته، الشيخ محمد رفعت كانت سورة “مريم” ساحته الأثيرة، والشيخ سيد سعيد بلغ الذروة في “يوسف”، أما الشيخ عبد الباسط فملك قصار السور بلا منازع، وإذا ذكر “قرآن الفجر” فلا يشار إلا إلى الشيخ محمود علي البنا، الذي كان صوته في الفجر يتألق بفتوحات نورانية لم يصل إليها أحد قبله أو بعده، كان يقرأ الفجر مجانا في أي مسجد دون تردد، واثقا أن الملائكة تملأ المكان، وأن وعد “إن قرآن الفجر كان مشهودا” يتجلى فيه.ولد محمود علي البنا في 17 ديسمبر 1926 بقرية شبرا باص بمحافظة المنوفية، ونشأ على حب القرآن، ونذرته أمه له منذ ولادته، عاش حياته كلها في خدمة كتاب الله، وعرف بأناقته ووسامته وأدائه العذب، حتى استحق عن جدارة لقب “أمير التلاوة”.

بدأت رحلته الكبرى حين انتقل إلى القاهرة وهو شاب في أوائل العشرينات، وشارك في مسابقة لحفظ القرآن نظمتها جمعية الشبان المسلمين، ففاز بجائزة مالية قدرها عشرة جنيهات، لكنه ربح ما هو أعظم: شريكة عمره.وتابع “تعرف الشيخ الشاب في الجمعية على المهندس محمود راشد، زميله في حي شبرا، الذي دعاه مرارًا إلى بيت أسرته، وهناك توطدت علاقته بالحاج علي راشد، والد صديقه، وهو رجل أزهري فاضل، رأى الحاج علي في الشيخ البنا شابا خلوقا متدينا، فزوجه ابنته “سيدة”، رغم اعتراض أقاربه الذين تمسكوا بتقاليد تمنع زواج بنات “آل راشد” من خارج العائلة، لكنها كانت السابقة التي غيرت كل شيء.

تزوج البنا عام 1948، وهو في الحادية والعشرين، بينما كانت زوجته تصغره بست سنوات، عاشت معه في شقة بسيطة بحي شبرا، وهناك أنجبت له ابنهما الأول “شفيق”، الذي أصبح لاحقا لواء مهندس وأحد كبار مسؤولي رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وبعدها انتقلت الأسرة إلى شقة في شارع مصر والسودان، ثم إلى منزل البنا في مصر الجديدة.كانت “سيدة” بحق سيدة قلب الشيخ، وقدم السعد عليه، فقد تم اعتماده قارئا بالإذاعة المصرية بعد شهور من زواجهما، في 17 ديسمبر 1948، وأصبح صوته بعد ذلك معروفا في أنحاء مصر كلها.

يضيف: “أنجبت له 7 أبناء، هم: شفيق، آمال (صحفية بالأخبار)، علي (محاسب وخبير كمبيوتر)، أحمد (رجل أعمال وهاو لقراءة القرآن)، محمد (طبيب باطنة في السعودية)، ناهد (خريجة تجارة)، وشريف (رجل أعمال) وكان لافتا أن خمسة من أبنائه حصلوا على بكالوريوس تجارة، وهي مصادفة أثارت تعجب كثيرين.سيدة كانت سيدة البيت بحق، تدير المنزل بحكمة وحب، تهيئ للشيخ جوه الخاص، تعرف ما يحب وما يكره، تبدأ يومه بفتة اللبن التي لا بديل لها، وتمنع عنه المياه الغازية والمشروبات الباردة حرصا على صوته، كانت معه في كل شيء، حتى أنها باعت قطعة أرض ورثتها لتساعده في شراء بيت، فاشترى لها لاحقا أضعاف ما باعته.

يروي ابنه الشيخ أحمد البنا، الأقرب إلى والده، أنه كان مضرب المثل في الكرم: بنى بيتا لجديه في قريته وهو لا يزال يسكن بالإيجار، أهدى كل ابن سيارة يوم تخرجه، بل فاجأ أحمد عند زواجه بسيارة 504 جديدة. يقول: “سألته ليه يا بابا؟ قال لي: مش معقول عربيتك تعطل ومعاك مراتك وتقف في الشارع”.حتى في بناء بيت العائلة في مصر الجديدة، خصص لكل ابن شقة، وعندما عاتبته شقيقته قائلة: “هتدي البنات زي الولاد؟” أجابها: “ده مش ورث يا رتيبة.. ده على حياة عيني”.

يختتم الحكيم: رحل الشيخ البنا في 20 يوليو 1985 عن عمر ناهز 59 عاما، عاش منها 37 عاما مع “سيدة قلبه”، التي لم تنسه يوما بعد وفاته، استمرت بعده عشر سنوات، وحرصت كل جمعة على زيارة ضريحه في شبرا باص، تقرأ له الفاتحة وتبكي، ثم تعود إلى القاهرة بقلب مثقل، يقول ابنه أحمد: “أمي في آخر أيامها كانت لا تزن أكثر من 38 كيلو، كأن الحزن على أبي كان يأكل من عمرها وصحتها”.وعندما توفيت، دفنت إلى جواره في الضريح الذي يضم جسد من قرأ فأطرب، ومن سمع فبكى، وفي قبره رقدت إلى جانبه شريكة عمره، كما أوصى هو قبل وفاته.