الخصوصية في مجتمعاتنا | محمد القبيسي

في الماضي، كانت الخصوصية جزءاً أصيلاً من ثقافتنا العربية والخليجية، كانت البيوت تُبنى بأسوار عالية، والمجالس تُدار بحذر، والأحاديث لا تتجاوز حدود العائلة، كنا نعرف كيف نُبقي حياتنا لأنفسنا، وكيف نُميّز بين ما يُقال وما لا يُقال، بين ما يُظهر وما يُخفى، بين ما يخصّنا نحن وحدنا وما يليق أن يُقال للآخرين، لكن شيئاً ما تغيّر، تغيّر بعمق وسرعة لم نعهدها من قبل.
مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، دخلنا عصر المكاشفة المطلقة، صارت تفاصيل الحياة اليومية تُعرض على الملأ، الفطور، والمناسبات، والهدايا، واللقاءات، وحتى لحظات الحزن أو الفرح الخاصة، لم تعد هناك حدود واضحة بين «العام» و«الخاص»، وكأننا استبدلنا جدران بيوتنا بشاشات مضيئة، نُطل منها على الجميع، ونسمح لهم أن يطلوا علينا بلا استئذان.
حتى العلاقات الزوجية لم تعد سرّية، فهذه تنشر قصة طلاقها وتفاصيل علاقتها بكل وضوح، وذاك يكشف الستار عن بيته وروحاتهم وغدواتهم وأدق خصوصيات حياتهم، كل ذلك من أجل الشهرة، والنتيجة؟
يتحولون إلى «مشاهير السوشيال ميديا»، لكن بأي ثمن؟ الخصوصية التي كانت تُصان أصبحت تُباع في سوق المتابعين.
الخصوصية لا تعني الانعزال، بل تعني أن نختار ما نشارك، وكيف نشارك، ومع من نشارك، هي ليست تقليداً قديماً، بل قيمة إنسانية تحفظ التوازن الداخلي، وتحمي العلاقات من التآكل، وتمنح الإنسان مساحته الخاصة للنمو، والتأمل، والسكينة.
اليوم، نرى أن غياب الخصوصية بدأ يؤثر في الأسرة، وعلى تربية الأبناء، وعلى جودة العلاقات، كل شيء أصبح قابلا للتوثيق والمشاركة، حتى الخلافات الأسرية تُطرح كمحتوى للنقاش العام، وهذا الانكشاف المفرط قد يُضعف الروابط بدل أن يقويها، ويُربك الأبناء وهم يشاهدون حياتهم تُعرض كأنها مسلسل يومي أمام جمهور لا يرحم.
نحن لا نرفض الانفتاح، ولا ندعو إلى العزلة، بل ننشد التوازن، أن نُعيد للخصوصية قيمتها، وأن نُدرك أن بعض اللحظات تُزهر فقط في الظل، لا تحت أضواء المنصات وضجيج الأرقام، وتذكروا أنّ كل ما تنشرونه اليوم موثّق في أرشيف الحياة، ومحفوظ للتاريخ.
تخيلوا شاباً جعل من نفسه أضحوكة أمام العالم، كيف سيكون شعوره حين يتوظف؟ وكيف سينظر إليه المجتمع بعد سنوات؟ وماذا سيُقال عنه حين يتقدم أحد لخطبة ابنته؟ أو حين يتقدّم هو لخطبة فتاة؟ سيقول الناس، أليس هذا فلاناً ابن فلان الذي كان يفعل كذا وكذا؟ أو هذه البنت التي اعتادت الظهور بكل تفاصيلها على وسائل التواصل؟ كل ما تفعله اليوم هو رصيد في بنك الحياة والتاريخ، وسيحين وقت صرفه عاجلاً أم آجلاً، فاجعل رصيدك شيئاً تفتخر به، لا شيئاً تخجل منه، ويلاحقك ويلاحق أبناءك وأحفادك من بعدك.
[email protected]