فيروز وزياد: اللحظة النهائية | مارلين سلوم

فيروز وزياد: اللحظة النهائية | مارلين سلوم

مارلين سلوم

وكأن الله يختبرها «هي» ليعطينا «نحن» الدرس تلو الآخر، «هي» التي تشبه صوتها بقوّته ولينه، بشموخه وانحنائه، بتفرّده وانسيابيته، «هي» السيدة فيروز و«نحن» كل الآخرين الذين كنا وما زلنا وسنبقى ندور في فلكها.
«هي» الرمز لكل ما هو جميل ونقي، للطفولة والحب والشوق والحلم والبراءة والعفوية والصمود والسكون والثورة والحق والأرض والتراب والياسمين والزيتون والأرز وبيروت وبعلبك وعينطورة ومشغرة وتنورين وكل حبة تراب من لبنان.. ما زالت تصمت وما زلنا نتعلم من صمتها وكبريائها الكثير.
في رحيل زياد الرحباني، وفي خسارة لبنان والعالم العربي لعبقري موسيقي خلق لنفسه مدرسة خاصة به وبفنه وفكره فخلق حالة استثنائية سار خلفها كبار وصغار ونشأت عليها أجيال وقلدها كثيرون.. في يوم رحيل هذا الفنان المبدع، جلسنا «نحن» الملايين خلف الشاشات نودعه بحزن وخلف الحزن عيون تدمع وتترقب لحظة ظهور الكبيرة فيروز، فهي اليوم «الأم الحزينة»، وقلوب كل من يعشق فيروز كانت تبكي ليس فقط على زياد وإنما حزناً على الفاجعة التي أصابت قلبها، ففاجأت فيروز العالم بحضورها الآسر وصمتها الذي أرادت من خلاله أن تتراجع إلى الخلف كي يبقى ابنها هو الحدث وكي تلتفت العيون إليه في لحظة الوداع وكي تتجه نحوه كل المشاعر فتغمره بالدعاء والصلاة.. جلست في ركن وبجانبها جلست ابنتها ريما ملتزمة هي الأخرى بنفس الصمت والرضا بالقدر واحترام رهبة الموت والفراق والمعنى الحقيقي للحزن في القلب لا في المظاهر، فانقسم المشهد أمامنا إلى ثلاثة أركان، ركن الوداع الحقيقي النابع من الناس الحقيقيين الذين يحبون زياد ويعرفون قيمة فنه وكلماته ومدرسته، أشخاص توافدوا لوداعه منذ لحظة خروجه من المستشفى حتى مغادرته إلى مثواه الأخير، لم تشغلهم الكاميرات ولا المظاهر الرسمية ولا «الترند»، وركن تشعر بالهالة الفيروزية تخيم عليه والكل يمر من أمامها برهبةٍ وبخوف شديد من كسر هذا الصمت أو خدش هذا الخشوع، وركن المغالين المبالغين المستفيدين من «اللقطة» ومن حضور هذا الحشد الكبير من الصحفيين ليكون هو الحدث ولو بمشهد لم نقرأ منه سوى الزيف حتى ولو كان صاحبه راكعاً مقبلاً يدي فيروز!
لا يحتاج المرء إلى الحضور في المكان ليلمس صدق المشاعر، وليتحد بالحزن على رحيل زياد الرحباني مع أمه وأخته وكل محبيه، مشهد تحترم فيه كل من تراجع إلى حد الخشوع أمام رهبة الموقف واحترام الموت ومشاعر الأم والأخت وغياب الفنان، فزياد لم يكن عادياً، وسواء اتفقت أم اختلفت مع فكره، إلا أنك لن تجد شبيهاً له، لا بسخريته ولا بألحانه ولا بكلماته ولا حتى بانقلابه المبكر على الرحابنة ليخلق خطاً آخر رحبانياً يلتقي مع النبع الأم أحياناً ويبتعد عنه أحياناً أخرى.
استثنائي زياد في حضوره وغيابه، واستثنائية فيروز بكل ما فيها، ترتقي حتى في أصعب لحظات الحياة وتجاربها المرّة، الأم التسعينية شامخة وهي في قمة حزنها على ابنها، ليت بعض المتزلفات يتعلمن منها شيئاً.