الهويات المدمرة | د. ندى أحمد جابر

د. ندى أحمد جابر*
يُعد كتاب «الهويات القاتلة» للكاتب أمين معلوف واحداً من أبرز المراجع التي آلت على نفسها تفكيك قضية شغلت الناس منذ أقدم العصور. ظهر الكتاب في منتصف تسعينات القرن الماضي باللغة الفرنسية ثم تُرجم للعربية. إلا أن الحقبة التي أثّرت في الكاتب كانت سنوات الحرب الأهلية اللبنانية بين 1975-1990. والتي تجلت في الكِتاب كتجربة مؤلمة أدت إلى قتل وهجرة الكثير، هجروا الوطن وهجروا الهوية التي كان من المفترض أن تكون «هوية وطنية» جامعة، فإذ بها تصبح أداة للقتل بين الجار وجاره، والصديق وصديقه.
وفي العودة إلى تعريف «الهوية الوطنية» نجد أنها أنشئت لتكون أكثر من مجرد وثيقة، بل أداة لبناء رابط قانوني، ثقافي، واجتماعي بين المواطن ودولته. هي وسيلة لتنظيم المجتمع وحماية الحقوق، وفي الوقت ذاته تعبير عن الانتماء المُشترك الذي يحفظ وحدة الشعب.. وُجدت هذه الهوية لوحدة الشعب ولخلق رابط معنوي بين الفرد والدولة وتوطيد أواصر التلاحم الشعبي. ومن أهم أهدافها تحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات. فكيف تحولت الأداة الوطنية الجامعة إلى عامل تفرقة وقتل؟
حين تتحول «الهوية الوطنية» من جسر للوحدة إلى سلاح للإقصاء، تفقد معناها الأصيل ويُعاد تعريف الانتماء الطائفي أو المذهبي ليصبح أداة لتبرير القتل. فيُختزل الوطن إلى لون أو عرق أو عقيدة واحدة. يُقصي المُختلفون ويُشيّطَن المُعارضون، وتتحول حدود الهوية من حماية للحقوق إلى أسوار تُحاصر الآخر. وهكذا تُستعمل الهوية التي أنشئت لتجمع الشعب على قيم المواطنة كأداة لتمزيق النسيج الاجتماعي وتكريس العنف، لتصبح ذكرى باهتة لوعدٍ كان في الأصل يساوي بين جميع المواطنين فأصبح مُثقلاً بالمعاني الإقصائية. هكذا تُستغل الشعارات الوطنية لإقصاء من يعتبرونهم «غرباء» أو «أقل» أو «كفار». فيعاد رسم حدود الوطن وفق العرق أو الدين أو الطائفة تحت ذريعة حماية الهوية. تُبَرر حملات القتل العنصري وتُشعل نيران التطرف الديني، فيصبح المُختلِف تهديداً يجب مَحوه، لا مواطناً شريكاً في الأرض والمصير. في مثل هذه السياقات تتحول الهوية إلى فتيل حرب أهلية، إذ يُقسّم الشعب إلى «نحن» و«ّهم»، ويُشار إلى العنف بوصفة دفاعاً عن «نقاء الوطن». تُستغل مخاوف المُتطرفين لتبرير قمع المُختلفين في الدين أو الطائفة وإبادة الأقليات أو إذلالهم بهدف ترحيلهم.. وتغدو «الهوية الوطنية» واجهة براقة لسلطة تبني شرعيتها على الدماء. وماذا نحصد؟ مجتمعاً ممزقاً يفقد ثقته بذاته، حيث يتحول الانتماء إلى ولاء أعمى ويُستبدل مفهوم المواطنة بالمُحاصصة. بهذا المعنى لا تعود الهوية أداة لحماية الحقوق، بل سلاحاً يُسلب به الحق في الحياة. وتتحول من وعدٍ بالمساواة إلى لعنة تصنع الأعداء داخل حدود الوطن الواحد.
«الهَويات القاَتلِة» ليست اختراعاً حديثاً، بل يُذكر أنها لها تاريخ طويل في استغلال التفرقة الدينية لسفك الدماء وقتل الأبرياء. في القرن السادس عشر والسابع عشر عصفت حروب التطرف الديني بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا وأزهقت الأرواح تحت شعار الدفاع عن الإيمان، تحولت المدن إلى ساحات تصفية عقائدية، في حرب الثلاثين (1648-1618) فكانت العقيدة الدينية مبرراً لواحدة من أكثر الحروب دموية في أوروبا، حيث التهمت مشاعر التعصب والكراهية قارة بأكملها.
وفي الإبادة الجماعية في رواندا (1994) تحولت بطاقة الهوية إلى حكم بالإعدام، فكانت وسيلة لتحديد من يعيش ومن يقتل في لحظة. أما الهند فعانت العنف بين مختلف الانتماءات الطائفية. هذه بعض النماذج التي تكشف الوجه المُظلم للهوية حين تُستغل من قِبل مُتطرفين وتقتل بحجة الدين وتنشر الحقد والخوف بين الأقلية والأكثرية التي تفقد شعور الأمان في ظل تهديد الضحية.
ونسأل كيف ستبنى الأوطان في هذا البيئة الموبوءة بالحقد والتي بدأنا نعيشها في عصرنا الحالي بكل مآسيها.. فالشرق الأوسط الحديث تحوّل إلى وقود لا تنطفئ نارها في مجتمعات متعددة الأديان والطوائف، ليعاد تعريف الانتماء الوطني وفق الولاءات الطائفية وتذوب فكرة المواطنة أمام وهم «النقاء» الديني أو المذهبي. في لبنان الذي شهد أبشع حروب القتل على الهوية. انهارت الهوية الوطنية وانهارت الدولة معها في دوامة الميليشيات المُتحاربة طوال أكثر من 15 عاماً. الاختلافات التي كان مُفترض أن تكون روافد إثراء للتنوع تحولت إلى أسوار دم وتركت مئات القتلى وملايين النازحين.
وفي العراق عادت الجماعات المُتطرفة 2003 لتعيد إنتاج الانقسام وتوزيع السلطة على أسس طائفية فانفجرت موجات العنف بين مكونات الشعب الواحد واستبيحت المدن باسم الدفاع عن الهوية فكانت التفجيرات والقتل جزءاً من الحياة اليومية.
واليوم بعد أن رقص الشعب السوري الشقيق فرحاً بحريته لم تكتمل فرحته، إذ عادت الهوية تشكل خوفاً لدى الأقليات، ووجد المُحتفلون بالنصر أنفسهم أمام هوية قاتلة أدت إلى مأساة إنسانية غير مسبوقة ومئات القتلى وتفكك النسيج الاجتماعي وسط أكثرية ذاقت سلطة بعد إقصاء.. وأقلية تذوق الخوف من الإلغاء. والنتيجة أن الهوية الوطنية التي وجِدت لتجمع السوريين تمزّقت تحت وطأة ولاءات ضيقة تغذيها التدخلات الخارجية.
وما يقوله التاريخ والجغرافية، أن وباء «الهَويِات القاَتلة» إذا لم يُستأصل في سوريا.. قد يعني التمدّد إلى لبنان فيعُاد ماضي لم ينسه اللبنانيون بعد.
* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية
[email protected]