«السنع».. تصرفات تقليدية تعكس كرم الشعب الإماراتي

الشارقة: سارة المزروعي
في البيوت الإماراتية، لا تبدأ الضيافة بطبق، ولا تنتهي بفنجان قهوة، بل تُنسج من منظومة سلوكية دقيقة، تُقاس فيها كرامة المضيف ومكانة الضيف بما يُظهره الطرفان من احترام للأصول المتوارثة، المعروفة باسم «السنع» وهو أدب التعامل الذي يشكّل جوهر الكرم الإماراتي، ويعكس رُقيّ التربية ونبل العلاقة بين الناس.
فرغم بساطة بعض التفاصيل في ظاهرها، إلا أن الإخلال بها يُعد خروجاً عن العادات والتقاليد، وخللاً في الذوق العام، قد يُساء فهمه دون قصد، ويترك انطباعاً لا يُمحى في ذاكرة الحضور.
مع تسارع وتيرة الحياة وتبدّل أنماط التفاعل الاجتماعي، تسلّلت إلى المجالس بعض التصرفات الدخيلة التي تبتعد عن السياق الأصيل للضيافة، فأصبح من الشائع ارتكاب أخطاء صغيرة مثل تقديم العطر قبل أوانه، أو البدء بالسلام من المنتصف، وهي تصرفات قد تبدو عفوية، لكنها تُعد خرقاً صامتاً للعرف والمقام.
لهذا، لا تزال أصوات كبار السن والمهتمين بالتراث تذكّر بأهمية التمسك بجوهر الضيافة، لأنها ليست عادة عابرة، بل فضاء تتوارث فيه القيم، ويتعلم الصغار من خلاله أصول التعامل، ويُكرَّم فيه الكبار، ويبقى للسلوك فيه معنى، وللأدب هيبة لا تزول.
4 من الفوالة إلى فنجان الودّ
الضيافة في الإمارات ليست طقوساً عابرة أو شكليات تُمارس بدافع العادة، بل هي حكاية تُروى من لحظة الاستقبال وحتى توديع الضيف تبدأ ب«الفوالة»، وهي اللفتة الأولى في الكرم، وتشمل غالباً الفواكه الموسمية أو أطباقاً شعبية مثل اللقيمات، الخبيص، الهريس أو الخنفروش، ثم يليها صبّ القهوة، التي تُعد الركيزة الأولى والأساسية في المجلس.
ففي كل بيت إماراتي، لا يُقدَّم الفنجان كضيافة فحسب، بل كرسالة صامتة تُترجم مشاعر الترحيب والتقدير، القهوة حاضرة في كل المناسبات، تُسكب في الأفراح علامة سرور، وتُقدَّم في الأحزان دلالة على المواساة، وهي شاهد حيّ على اللحظة مهما اختلفت ألوانها، تُقدَّم بحب، وتحمل في كل رشفة منها توقيعاً على أصالة المكان وأهله.
أول اختبار للأدب
لا تُعد التحية مجرد إجراء اجتماعي أو بروتوكول شكلي في المجالس، بل هي أول اختبار للأدب والسنع، ومفتاح تُفتح به أبواب الودّ والاحترام بين الضيف والمضيف، يبدأ الداخل بتحية الجالسين من الجهة اليمنى، اتباعاً للسنّة النبوية، واحتراماً للتسلسل الاجتماعي، ليُعلن بذلك حضوره بأدب لا بصوت فقط.
يقول راشد الطنيجي: «الترتيب في السلام مش تفصيل صغير.. الكبار يلاحظونه من أول لحظة، ويُعلَّم للصغار من نعومة الأظافر، لأنه أول مدخل للأدب واحترام المجلس».
وتجاهل هذه القاعدة أو البدء بالتحية بعشوائية، حتى لو بحُسن نية، قد يُفسَّر كاستخفاف بمكانة الأكبر سناً أو جهل بأصول المجالس، ولهذا، يُعلَّم الأبناء منذ صغرهم أن يبدؤوا بالسلام من اليمين، ويُسلِّموا على الجالسين حسب ترتيبهم دون تجاوز أو استعجال.
وفي ثقافة تُعلي من شأن الكرم وتحترم المقامات، لا يُنظر إلى السلام كتحية عابرة، بل كبوابة تُمهّد لعلاقة مبنية على النية الطيبة، وتُعلن احترام الضيف لهيبة المكان وأهله، فالتحية تُقال، لكنها في المجالس الإماراتية تُراقَب وتُوزَن، وتُعد مقياساً صامتاً يُكشف به أدب الداخل من أول خطوة.
آداب القهوة
حين تُرفع الدلّة في المجلس الإماراتي، فهي لا تُحمل عبثاً، بل تُدار وفق ترتيب دقيق ينبع من الاحترام، حيث تُصبح كل حركة في هذا الطقس دلالة على الذوق والكرم. تقول شيخة النقبي: «من يقدم القهوة، يمسك الدلّة بيده اليسرى ويصبّ الفنجان باليمنى احتراماً للضيف، ويبدأ بالأكبر سناً أو من يتصدر المجلس، فلا مجال للتجاوز أو العشوائية».
وتضيف: «يُقدَّم الفنجان من جهة اليمين، واحداً تلو الآخر، بهدوء واتزان، فترتيب التقديم هنا ليس فقط من باب الأدب، بل يحمل تقديراً واضحاً لكل من حضر».
ملء الفنجان
من التصرفات غير المقبولة التي قد يغفل عنها البعض، ملء الفنجان حتى أعلاه، وهي إشارة تُفسَّر في التقاليد الإماراتية وكأن المضيف يقول للضيف: «اشرب بسرعة وامشِ»، لذا يُقدَّم الفنجان عادة إلى النصف، في دلالة راقية على الكرم والاستعداد للمزيد. ف«نص الفنجان» ليس نقصاً، بل لغة صامتة تقول الكثير، ما دام الضيف مرتاحاً ويرغب في البقاء.
أدب الضيف
أما عن سلوك الضيف، فتؤكد شيخة النقبي أن من غير اللائق أن يمدّ الفنجان لشخص آخر أو يضعه على الطاولة، بل يجب عليه أن يتناول القهوة بيمينه، وإن اكتفى، يهز الفنجان بهدوء، دون الحاجة للكلام.
كما لا يصح لمن يصبّ القهوة أن يغادر قبل أن يتأكد أن الضيف أنهى فنجانه أو أشار بالاكتفاء، لأن ترك الضيف بلا متابعة يُعد تقصيراً في واجب الضيافة.
وهكذا، يتحول فنجان القهوة إلى مقياس حقيقي للذوق والوعي بالسلوك الاجتماعي، وتُقرأ من خلاله نوايا المضيف ومدى احترامه للعرف، وتُحفظ به هيبة المجلس في أبسط تفاصيله.
الطيب في ختام المجلس
تُعتبر لحظة تمرير الطيب بين الضيوف بمثابة الختام الراقي للزيارة، لا مجرد عادة شكلية، فالعطر في المجالس الإماراتية ليس زينةً للمكان، بل هو تعبير صامت عن الامتنان، ورسالة أخيرة تُغلف اللقاء برائحة الكرم لكن متى ما استُخدم في غير وقته، تحوّل من لفتة تقدير إلى إشارة قد تُفهم على نحوٍ خاطئ.
توضح علياء النعيمي أن من أبرز الأخطاء التي يقع فيها البعض خاصة من فئة الشباب، تقديم البخور أو دهن العود في منتصف الجلسة وتقول:
«العطر يُمرر عند خروج الضيف، مش في نص القعدة، لأن الناس تعتبره تلميحاً بالمغادرة، ولو ما تقال الكلمة بصراحة».
وتُشير علياء النعيمي إلى أن الأمثال الشعبية تلخّص هذه القيم بدقة، كما في قولهم: «ريحة الطيب تسبق الطيّب»، أي أن رائحة الكرم لا تسبق موعدها، ولا تُفرض قبل أوانها، وكل تفصيلة لها توقيتها، وكل إشارة تحمل معنى.
تضيف علياء النعيمي:«تقديم الطيب قبل الأوان يُضعف هيبة المجلس، ويقلل من شعور الضيف بالترحيب الحقيقي»، مؤكدة أن التسرّع في تعطير الحضور قد يطغى على دفء اللقاء ويختصره دون مبرر.
أصول الضيافة
رغم تطور أنماط الحياة، تُعد بعض السلوكيات الحديثة خرقاً صريحاً لأصول الضيافة، من أبرزها الانشغال بالهاتف أثناء الحديث أو تقديم القهوة، ما يُفسد جو اللقاء ويبعث برسائل خاطئة.
وتشير علياء: «علياء النعيمي جزء من السنع.. إذا كان الهاتف حاضراً أكثر من الموجودين، فهني المشكلة».
ويُضاف إلى ذلك رفع الصوت، أو مقاطعة المتحدث، خاصة إذا كان أكبر سناً أو في موضع تقدير، فهذه التصرفات لا تُخلّ فقط بالنظام العام للمجلس، بل تعكس أيضاً عدم دراية بأدب المكان.
كما يُعد الانصراف المفاجئ دون استئذان أو توقيت مناسب سلوكاً غير مقبول، إذ قد يُفهم على أنه تقليل من شأن الحضور.
وتوضح شيخة النقبي: «يُستحسن أن يُغادر الضيف بهدوء، بعد تحية لطيفة أو إيماءة معتذرة، حفاظاً على انسجام المجلس وهيبته».