إبراهيم العوضي يسجل التاريخ بالألوان

الشارقة: عثمان حسن
في مطلع سبعينات القرن الفائت، بدأت ملامح الحركة التشكيلية في الإمارات تؤسس لنفسها موقعاً في الساحتين الخليجية والعربية، كان ذلك مع بدايات تأسيس الدولة، حيث بدأت ملامح هذه الحركة تتشكل مستلهمة عناصر التراث المحلي من خلال مجموعة من الفنانين الذين أصبحوا اليوم من رموز هذه الحركة التشكيلية وروادها الأوائل.
كانت الواقعية في الرسم هي الأقرب إلى الفنانين التشكيليين الأوائل، ومنهم عبد القادر الريس وعبيد سرور وإبراهيم العوضي وغيرهم، ذلك أن الواقعية منذ تأسيسها كمدرسة عالمية ظهرت في فرنسا منتصف القرن التاسع عشر رداً على المدرسة الرومانسية، وركزت كل اهتمامها على كل ما هو واقعي وحقيقي وموجود فعلاً في الطبيعة.
في الإمارات يمكن تسليط الضوء على تجربة مهمة في التشكيل الإماراتي، والتي جسدت نموذجاً حيا من الواقعية مستلهمة التراث الإمارات ومفرداته، من دون الغوص في الخيال، مالت تجربة إبراهيم العوضي إلى تصوير الواقع كما هو من خلال الفن، مصورة الحياة اليومية للناس بجانب البحر والرمال والجبال، وقد نقل الفنان ملامح هذه الحياة مبتعداً ما أمكن عن الذاتية والانطباعات الشخصية، ومهتماً إلى حد بعيد بالتفاصيل مثل الألوان والحركات والأشكال.
تميز
انخرط إبراهيم العوضي، في تجسيد معالم التراث الإماراتي، من آثار ومواقع، وأمكنة، وملامح تراثية على تماس مع حياة الناس البسطاء، فقدم العديد من اللوحات المتنوعة، التي تبرز الحصون والقلاع والبراجيل والسفن والمراكب والبيوت القديمة وتفاصيلها، غير أن ما يهمنا هنا، هو واحدة من لوحاته القديمة، التي جسدها العوضي من واقع صورة فوتوغرافية ملتقطة لأحد الفنانين، وتاريخها يعود إلى ستينيات القرن الماضي، في منطقة ليوا/ أبوظبي، كما أفاد العوضي.
استخدم العوضي تقنية الألوان الزيتية على قماش، واللوحة تظهر صلابة المرأة الإماراتية ووقوفها إلى جانب الرجل وتعاونهما على مشقات الحياة، ظهرت المرأة في هذه اللوحة، وهي تتمتع بالقوة، وكانت مشاركة حقيقية للرجل، تصحو من الفجر، وتقوم بتلبية متطلبات البيت حتى عودة الرجل من عمله. في هذه اللوحة نجح الفنان العوضي في إبراز تفاصيل دقيقة من لباس المرأة في ذلك الزمن، حيث كانت ترتدي لباساً مستجلباً من الهند يطلق عليه (أبو دمعة) وهو نوع من الأقمشة التراثية القديمة، التي تنتهي بقماشة تستر المرأة حتى قدميها، ويشكل هذا اللباس الذي حرص العوضي على إظهاره جزءاً من الذاكرة الشعبية لأهل المنطقة، كما عكس أيضا أناقة المرأة الإماراتية.
تفاصيل
حرص إبراهيم العوضي على تصوير منظر واقعي، يصور إحدى محطات الحصول على المياه والتي كانت تضم ماسورة معدنية قائمة، تنتهي بصنبور، تتوسط قضيبين معدنيين من جهة اليمين واليسار، هذه اللوحة تسلط الضوء على منظر واقعي من حياة السكان في تلك الفترة، فيظهر في الرسم امرأتان تقومان بجلب المياه، ووضعها على ظهر الدواب، بغرض بيعها للسكان في الأحياء القريبة، يظهر في اللوحة (الدابة) على اليمين، وهي تحاول أن تستظل من الحر الشديد، فتحاول أن تدس رأسها في فسحة الظل قريباً من العمود البارز في اللوحة، حيث قام العوضي بتنفيذ لطشة من الظلال السوداء على ظهر الدابة.
ملامح
لقد كان استخدام اللون في هذه اللوحة دقيقاً في تصوير الزي الذي ترتديه النساء، وهذه واحدة من ملامح المدرسة الواقعية التي حرص إبراهيم العوضي على تصويرها في اللوحة، وكانت الألوان الزيتية مناسبة تماماً لهذه اللوحة الواقعية، فواحدة من النساء (في جهة اليمين) ويبدو أنها كبيرة في السن، ترتدي الزي التراثي الذي يمزج بين اللونين الأسود والأصفر والأزرق الموشى بنقاط بيضاء، فيما ظهرت الثانية (الأصغر سناً) بفستان أصفر منقط باللون الأحمر، وهي تجهز دابتها لحمل المياه، حيث تظهر خبرة الفنان هنا في مزج الألوان على النحو الذي يبرز المشهد الواقعي بكل حرفية وتميز.
حساسية
كان لاستخدام الألوان الزيتية في هذه اللوحة ميزة استثنائية في تصوير التراث الإماراتي، وهنا، استعادة للبيئة المحلية وتأكيد رسم التفاصيل كما تلتقطها عين الرسام مباشرة من الطبيعة، من دون تزويق إو إفراط باستخدام الخيال، وفي هذه اللوحة يؤكد العوضي، كما سبق وصرح في أكثر من لقاء، أن الواقعية مدرسة فنية لا تزال قائمة، ولن تزول في مقبل الأيام، وهي وسيلة تعكس الفن الحقيقي، كما تعكس صدق الفنان في نقل المشهد الطبيعي بكافة تفاصيله، والواقعية هنا، تعبر عن حساسية وصدق فني، تقاس من خلالها ردة فعل الجمهور تجاه الفن، وهي من دون شك واحدة من المدارس التي رسخت جمهوراً واسعاً من متلقي الفن الذين لا يزالون إلى اليوم ينتقون الكثير من هذه اللوحات المسندية، التي تؤرخ لزمن شاهد على البدايات.