Reflection on Self through the Lens of Industry | Abdelilah Belqiz

عبد الإله بلقزيز
أحدثتِ الثّورة الصّناعيّة، في القرن الثّامن عشر، وما تَوَلَّد منها من تحوّلاتٍ هائلة، لجهةِ تيسيرِ شروط الحياة والوجود الاجتماعيّ والإنسانيّ وتعظيم مُتاحاتها، منعطفاً كبيراً في نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى قدرته على السّيطرة على أوضاعه ومشكلاته، وفرصةً جديدة لاكتشاف الطّاقات الكامنة التي تختزنها الذّات وتدَّخرها لنفسها لجبْه تحدّيات الوجود. ولقد كان لمثل هذه النّظرة الجديدة إلى الذّات، ولمثل هذا الاكتشاف المتجدّد لطاقاتها المكنوزة، أن يفصح عن نفسه، في نسخةٍ أولى منه قبيل انطلاق ثورة الصّناعة، بمناسبة الثّورة العلميّة التي مسّت ميادين الفلك والرّياضيّات والفيزياء وعلوم الأحياء. وإذا كانت ثورةُ المعرفة العلميّة، في حدّ ذاتها، قد رفعتْ معدّل الثّقة بالذّات في أوساط العلماء والمفكّرين وزادت درجةَ اليقين من قدرة العلم على اجتراح المستحيل، فإن نتائجَ تلك الثّورة انعكست على مجتمعات أوروبا، ابتداءً، ثمّ العالم بعدها شعوراً عامّاً بالارتياح من محصول مكاسبها في ميادين الحياة: الإنتاج، التّنقُّل، الصّحّة…إلخ. هكذا، بمقدار ما كان نطاقُ الإيمان بالعلم يتّسع في المجتمع، كان على الشّعور بعِظَمِ مكانةِ الذّات في العالم أن يَعْلُوَ، بالتَّبِعةِ، أكثر وأن يَرْسَخ في عميق النّفس، ثمّ ما لبثتِ الصّناعة، وما حُمِل في ركائبها من فتوحات، أن زادتِ الشّعورَ ذاك قوّةً ورسوخاً.
آذَنَ انطلاق الثّورة الصّناعيّة بميلاد التّقنيّةِ الآليّة، التي كانت معتَمَدَها ويَدَها الضّاربة، وصادفَ أن تزامَن انطلاقُها مع تَوسُّعِ نظام الإنتاج الرّأسماليّ، بل هو كان (أي الانطلاق) من نتائج ذلك التّوسُّع وتجلّيّاتِه النّوعيّة. هكذا اجتمعت في قرنٍ واحد عواملُ ثلاثة تَعَاورتْ على تنمية الشّعور بقوّة الذّات وتفوُّقها الخارق، هي: الرّأسماليّة، الصّناعة، التّقنيّة. وهي إذِ اجتمعتْ، قام من اجتماعِها دليلٌ مادّيّ على مدى التّغيّر الكبير في شروط الوجود الذي قَوِيَتْ على أن تصطنعه للإنسانيّة جمعاء، وأن تحوِّل معه المستحيلَ إلى ممكن واليوتوپيَّ إلى واقع. ولمّا كانت العواملُ الثّلاثة المشارُ إليها ظواهرَ من صنع الإنسان ومن منتوج عقله وإرادته، بدا للوعي وكأنّه للمرّة الأولى شَرَع الإنسانُ في صُنع مصيره وتحقيق إرادته بمحض إرادته وبحرّيّةٍ لا قيود عليها تَكْبَحها.
قد يصحّ أن يقال إنّ موْلد فكرة الذّات الواعية، الحرّة والفاعلة، مع ديكارت والكوجيتو حرّر الوجود الإنسانيّ من العبوديّة لأقداره الغامضة وشرطِه الموضوعيّ الذي ينيخ عليه بكلكله، والذي لا سبيل لديه إلى رفعه عنه أو إلى كفِّ وطأته عليه، ممّا أتاح له أن يجترح المساحات المناسبةَ لتجلّي قدرة تلك الذّات وإرادتِها بعد انعتاقها. هذا صحيحٌ لا مِرْية فيه، لكنّه صحيحٌ بمقياسٍ نظريّ وفلسفيّ، وهو المعلَّقةُ صدقيّتُهُ على ما يتيحُه الواقعُ من إمكان تصييرِ الصّحيح ذهنيّاً شأناً صحيحاً ماديّاً. ولقد كانتِ الثّورةُ الصّناعيّة هي مصداقُ ذلك والقرينَةُ عليه بما كشفت عنه من إمكانيّاتٍ وفرصٍ للارتقاء تُفجِّر في الوعي حالة الإذهال. إنّها، من وجْهٍ، ميدان اختبارٍ لتلك الذّات وقدرتِها على تغيير الشّرط الإنسانيّ نحو الأفضل، وهي، من وجْهٍ ثانٍ مختبرٌ لقياس نجاعةِ العلم، وهو منتوجٌ إنسانيّ، وقابليّةِ نتائجه للتّحقُّق في صورة منافعَ مادّيّة. بهذا المعنى أتتِ الصّناعةُ والثّورة الصّناعيّة تشهد لِمَا سبَقَها من فتوحات (العقل، الثّورة العلميّة…) بالحُجّيّة وعظيمِ الفائدة للوجود الإنسانيّ.
إذا كانتِ الصّناعة، ومعها التّقنيّة، قد قدّمت شيئاً جديداً في تاريخ الفعّاليّة الإنسانيّة، فهو تمكين الكائن الإنسانيّ من إِعتاق نفسه من التّبعيّة لأحكام الطّبيعة والانفعال بها إلى الفعل فيها والتّحكّم بها. هذا طورٌ ثانٍ في تاريخه الذي بدأ طورُه الأوّل بالاهتداء إلى الزّراعة ومنها، بالتّالي، إلى توفير الغِذاء ومغالبة الشُّحّ والخصاص. لكنّ الطّور الثّانيّ الصّناعيّ زاد على الأوّل من حيث الكمّ والنّوع، فأمّا من حيث الكمّ فلأنّ التّصنيع فعْلُ تكثيفٍ للإنتاج وتسريعٍ لإيقاعه لا تعرف له الزّراعةُ مثيلاً، هي التي تخضع، في النّهاية، لنظام الطّبيعة الذي هو، حُكماً، أبطأُ من نظام التّقنيّة، وأمّا من حيث النّوع فلأنّ الصّناعة والتّقنيّة إخضاعٌ للطّبيعة وسيطرةٌ عليها وتحكُّمٌ في نظامها، وهو إخضاع يجري بقوّة العنف المادّيّ العاري الذي تُجسّده التّقنيّة، فيما لا تصل الزّراعةُ، بوصفها فعْلَ تحويلٍ، إلى لحظة الإخضاع العنيف للطّبيعة والسّيطرة على نظامها. على أنّ مدى سيطرة الصّناعة وقدرتها على إخضاع العالم الخارجيّ أوسعُ من نطاق الطّبيعة، إذ هو يشمل الإنسان أيضاً: في غرائزه وميوله وحاجاته وذوقه وعاداته الحياتيّة، هذه التي باتتِ الصّناعةُ والتّقنيّة هي التي تتحكّم فيها وتُوجّهها وفقاً لنظام احتياجاتها، وليس نموذجُ الاقتصاد الاستهلاكيّ، الذي أنجبتْه في ظلّ النّظام الرّأسماليّ وتَعَمَّم في مجتمعاته، إلاّ مثالاً لذلك التّحكُّم الذي باتت تستطيعه حيال «الطّبيعة الإنسانيّة». لقد صارتِ الصّناعة طبيعةً ثانيّة: للطّبيعة وللإنسان معاً.
ليس بمستغرَب، إذن، أن تكون عقيدة القوّة والتّفوّق قد شرعت في الانعطاف نحو الرّسوخ والتّوسُّع في سياق تَعاظُم الصّناعة والتّقنيّة وتوسُّع نطاق تدخُّلهما في الإنتاج وميادين الحياة، إذْ هُما على تلك العقيدة، وعلى «وجاهة» الاعتقاد بها، دليلٌ دامغ، حيث لولا قوّةُ الذّات وتفوُّقها ما كان لتكون الصّناعةُ في قلب فتوحات العصر الحديث.
[email protected]