الجواسيس: هل يمكن أن يقرروا مصير الحروب المعاصرة؟

د. أيمن سمير
ليست كل أفلام وكلمات «جيمس بوند» من الخيال، فمن يراجع تاريخ ومواقف الجواسيس على مدار التاريخ سوف يكتشف أن عمل الجواسيس والعملاء كان مصاحباً لتاريخ الأمم والدول والشعوب، وأن الجواسيس بكل دوافعهم سواء لخدمة دولهم أو للحصول على المال كانوا دائماً «معادلة رئيسية» و«عنصر حسم» في كثير من المعارك والصراعات الشهيرة، فالمعلومات والأسرار التي ينقلها الجواسيس تكون الأساس لكثير من الخطط العسكرية والقرارات السياسية، فقبل نحو 3500 عام قبل الميلاد، وعندما فشلت كل محاولات تحتمس الثالث فرعون مصر، في السيطرة على مدينة يافا نظراً لحصونها المنيعة، أرسل مجموعة من الجنود في أكياس القمح على سفينة إلى ميناء المدينة، وبعد أن دخلوا مدينة يافا، وعرفوا كل نقاط ضعفها اشتبكوا مع جنودها، وفتحوا أبواب الحصون أمام الجيش المصري.
تؤكد كل كتب التاريخ أن جميع الأنظمة اعتمدت على الجواسيس ليس فقط لجمع المعلومات، بل للقيام بعمليات جريئة وخارج الصندوق كما كانت تفعل «النينجا» اليابانية، وكما رواه كتاب «أصول الحرب» لأسطورة المخابرات الصينية «صن تزو» الذي بنى أول شبكة متكاملة للمخابرات والتجسس في تاريخ البشرية، ولا يزال كتابه «أصول الحرب» يدرس في كبرى أكاديميات المخابرات والتجسس العالمية، وكشفت وثيقة عمرها نحو 428 عاماً عن تجسس ملكة بريطانيا إليزابيث الأولى على ملوك أوروبا عبر جهاز رفيع من الجواسيس أصحاب المهارات الفائقة.
اللافت أن كلمات بعض الجواسيس الذين خدموا بلدانهم ظلت في ضمائر شعوبهم، وتتغنى بها الأجيال الجديدة، فما زال الشعب الأمريكي يتذكر ناثان هيل الذي تجسس على الجيش البريطاني قبل معركة رود أيلند الشهيرة في نيويورك خلال حروب الاستقلال الأمريكية، فبعد القبض على ناثان هيل، وقبل إعدامه بدقائق قال مقولته الشهيرة «أنا نادم فقط لامتلاكي روحاً واحدة أهبها لوطني»
لكن على الجانب الثاني يعد التجسس لصالح الأعداء من أبشع الجرائم المرفوضة أخلاقياً وقانونياً لدى مختلف الشعوب، فمن يعمل لصالح الأعداء سواء في وقت السلم أو أثناء الحرب يظل مرفوضاً ومنبوذاً حتى بعد سجنه أو إعدامه، ويظل عنواناً للخيانة وعدم الوطنية.
وطرحت الحرب الإسرائيلية الإيرانية التي استمرت 12 يوماً الكثير من الأسئلة التي تحتاج الإجابة عليها إلى سنوات وربما عقود، لكن أكثر الأسئلة التي لا يزال الجميع يبحث لها عن إجابة تتعلق بدور العملاء والجواسيس في الحروب الحديثة، وهل بالفعل باتوا يشكلون «الرقم الصعب» في أي معركة بين دولتين؟ وهل الإنجازات التي تقول تل أبيب إنها حققتها سواء في حربها مع إيران، وقبل ذلك في الحرب ضد حزب الله في جنوب لبنان يعود «حصرياً» للمعلومات الثمينة والقيمة التي قدمها العملاء والجواسيس على الأراضي الإيرانية واللبنانية للموساد وللجيش الإسرائيلي لتحقيق الأهداف العسكرية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؟
لأنه بدون تلك المعلومات شديدة الدقة ورسم الإحداثيات الدقيقة من قلب الميدان كان من الصعب على إسرائيل اغتيال زعيم حزب الله حسن نصرالله على عمق نحو 13 طابقاً تحت الأرض، واغتيال نحو 19 عالماً نووياً إيرانياً في بيوتهم بالتزامن مع اغتيال كبار قادة الجيش والحرس الثوري الإيراني.
الواقع يؤكد أن المعلومات الثمينة التي قدمها طابور طويل من الجواسيس والعملاء على الأرض، يعملون عن قرب مع كبار القادة والمسؤولين وحتى رجال الدين هي التي لعبت الدور الأهم في اغتيال قيادات الصف الأول والثاني في حزب الله، وكبار القادة الإيرانيين في الدقائق الأولى للحرب الإيرانية الإسرائيلية، لأن دور هؤلاء الجواسيس لم يقتصر هذه المرة على تقديم المعلومات، بل شيدوا مصانع وورشاً لتصنيع الطائرات المسيرة داخل الأراضي الإيرانية، وشنوا هجمات دقيقة على أهداف عسكرية إيرانية مثل مقار الحرس الثوري الإيراني بالتزامن مع هجمات نحو 200 طائرة إسرائيلية شكلت المواجهة الأولى من الهجوم الإسرائيلي على إيران يوم 13 يونيو الماضي، وكشفت أيضاً «عملية البيجر» في لبنان، في سبتمبر من العام الماضي، وقبلها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في شقته بصاروخ موجه بدقة، عن الدور الكبير لتكنولوجيا التجسس في حسم المعارك والتخلص من الأعداء، فكيف تبني الدول والأجهزة الاستخباراتية الطابور الخامس من الجواسيس والعملاء في أراضي الأعداء؟ وهل يمكن لإيران أن تحقق نوعاً من «توازن الردع المعلوماتي والاستخباراتي» مع إسرائيل؟ وما هي أفضل الطرق لتحصين الأمم والمجتمعات ضد اختراقات الجواسيس؟ وكيف يلعب التجسس الرقمي والذكاء الاصطناعي الدور الأكبر في رسم الإحداثيات العسكرية وكشف الأسرار عن الخصوم والأعداء؟
الاستثمار في الجواسيس
ما تراه إسرائيل من نجاح استخباراتي وزرع للجواسيس في كل مكان على الأرضي الإيرانية لم يأت بين ليلة وضحاها، فوفق عدد من التقديرات فإن إسرائيل بدأت في زراعة العملاء منذ عام 2010، وتركز دورهم حول القادة الكبار في المؤسسات الأمنية والعسكرية والدينية، ورصدت إسرائيل كل التفاصيل التي تتعلق بالبرنامجين الصاروخي والنووي وبرامج الطائرات المسيرة، والعلماء الذين يعملون على تطوير وهندسة كل هذه البرامج، بل واستطاعت إسرائيل أن تستغل تراجع الاقتصاد الإيراني وحاجة البعض للمال، في تجنيد الجواسيس والعملاء.
حروب الظل
وقبل حرب ال 12 يوماً كانت حرب العملاء والجواسيس على أشدها بين إيران وإسرائيل والتي أطلق عليها «حرب الظل» أو «الحرب بين الحروب» حيث اغتالت إسرائيل زعيم حركة حماس إسماعيل هنية شمال غرب طهران في 30 يونيو 2024، وهي منطقة حصرية للحرس الثوري الإيراني، وتعجب الكثيرون من دقة المعلومات عن رقم الشقة والدور والبناية التي كان إسماعيل هنية يقيم فيها، ويعود ذلك للمعلومات الدقيقة سواء التي وفرها عملاء على الأرض للموساد الإسرائيلي أو تعقب تل أبيب لهاتف إسماعيل هنية، وبنفس السيناريو قتلت إسرائيل «مهندس البرنامج النووي الإيراني» فخري زاده، في مركز «سبند» التابع لوزارة الدفاع، في كمين على طريق في أبسارد في 27 نوفمبر 2020، وتأكيد المخابرات الإيرانية نفسها أنه تم استخدام مدفع آلي يعمل بالأقمار الصناعية بعد معلومات موثقة أرسلها جواسيس على الأرض استطاعوا إدخال قطع سلاح يعمل بالذكاء الاصطناعي عبر شبكة لتهريب الكحول من الحدود الغربية، وبعد الحصول على معلومات حول تحركات فخري زاده عبر عميل مزروع تم نصب كمين له في منطقة «أبسارد» واغتياله، وقبل الحرب نجح الموساد في إنشاء قاعدة للطائرات المسيرة العسكرية داخل إيران بطائرات دون طيار تم تهريبها قبل وقت طويل من العملية، وخلال الهجوم الإسرائيلي، تم تفعيل الطائرات دون طيار، وإطلاقها باتجاه منصات إطلاق صواريخ أرض- أرض الموجودة في قاعدة قرب طهران، حيث تم تدمير الصواريخ البالستية هناك قبل إطلاقها باتجاه إسرائيل، وكل هذه النجاحات التي قام بها جواسيس إسرائيل في إيران هي التي مهدت لعمليتي «العرس الدموي» ضد القادة العسكريين و«نارنيا» ضد العلماء النوويين فجر 13 يونيو الماضي. لكن ربما ما لم يتوقعه أحد هو سرقة إسرائيل لأرشيف البرنامج النووي الإيراني بالكامل من ورشة في«منطقة تورقوز آباد» في 30 إبريل 2018، وردت إيران بسرقة جزء من الأرشيف الإسرائيلي بما فيه وثائق نووية سرية في 8 يونيو الماضي أي قبل الهجوم الإسرائيلي بخمسة أيام، وهي معلومات أكدتها الوكالة الدولية للطاقة النووية التي قالت إن إيران حصلت على كل المعلومات التي تتعلق بمفاعل «سوريك» البحثي الإسرائيلي عام 2024 لكن تم الكشف عن العملية في يونيو الماضي عندما وصلت تلك المعلومات بأمان إلى إيران، وهو ما يفسر نجاح إيران في الاقتراب من شخصيات أمنية كبيرة في إسرائيل، منها محاولات طهران اغتيال وزير الدفاع إسرائيل كاتس، وقبلها اكتشاف إسرائيل تجنيد إيران لشاب إسرائيلي كان يعمل في بيت وزير الدفاع الأسبق بيني جانتس، وفي عام 2024 وحده استجوب جهاز «الشاباك الإسرائيلي» نحو 700 إسرائيلي يعتقد أنهم يعملون جواسيس لإيران.
الجواسيس بعد الحرب
ورغم وقف الحرب بين إسرائيل وإيران إلا أن دور الجواسيس والعملاء يتعاظم بين البلدين، حيث تسعى إسرائيل للتأكد من حجم الدمار الذي لحق بالمنشآت النووية ومخازن الصواريخ البالستية وخطوط إنتاج الصواريخ التي تعمل بالوقود الصلب، وتراهن إسرائيل على جواسيسها للإجابة عن السؤال الكبير بعد الحرب، وهو أين اختفى اليورانيوم الإيراني المخصب بنسبة 60%؟ وهل فعلاً نقلته إيران خارج مفاعل فوردو أو كما يقول الرئيس ترامب أنه دمر المخزونات بالكامل، ولم يكن لدى إيران الوقت لنقل هذا اليورانيوم لأماكن سرية خارج المفاعلات قبل مهاجمة الطائرات الأمريكية لمفاعلات فوردو ونطنز وأصفهان.
أيضاً إيران تستطيع أن تعزز شبكة عملائها وجواسيسها الناجحة في إسرائيل بعد أن قالت التقديرات الأمريكية إن نحو 16% من الصواريخ البالستية الإيرانية وصلت لأهدافها في العمق الإسرائيلي، ومنها أهداف حيوية ودقيقة مثل معهد وايزمان للبحث العلمي، وميناء حيفا، وشارع وزارة الدفاع في تل أبيب، ومع عدم توقيع الطرفين على وثيقة لوقف الحرب، وفي ظل مخاوف إسرائيل من استئناف البرنامجين الصاروخي والنووي الإيرانيين، ومع شكوك إيران بأن إسرائيل يمكن أن تستأنف ضرباتها ضد إيران من جديد سوف تعمل كل من تل أبيب وطهران من خلال الجواسيس لقراءة تحركات وخطط كل طرف تجاه الطرف الآخر.
حرب الجواسيس بين الغرب والشرق
جاءت غالبية أفكار وقصص جيمس بوند من الصراع بين الاتحاد السوفييتي و«حلف وارسو» من جانب، والولايات المتحدة وحلف «الناتو» من جانب آخر، لكن اليوم وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي يلعب الجواسيس والعملاء الدور الأكبر في نقل المعلومات والخطط المستقبلية للولايات المتحدة والدول الغربية عن روسيا والصين، ولا يمر يوم دون أن تتهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية روسيا والصين بالتجسس وزرع العملاء لنقل كل شيء للأجهزة الاستخباراتية الصينية والروسية، ففي شهر نوفمبر عام 2021 وقبل نحو 3 أشهر من الحرب الروسية الأوكرانية قال البيت الأبيض إن روسيا اتخذت قراراً بالهجوم على أوكرانيا، ورغم نفي روسيا للأمر حتى منتصف شهر فبراير 2022 تأكد في النهاية أن الولايات المتحدة كانت تتابع جميع المعلومات والقرارات الخاصة بالاستعداد الروسي للحرب على أوكرانيا من خلال عملاء روس جرى زرعهم وتجنيدهم في الجيش الروسي وكانوا قريبين جداً من القيادة العليا للجيش الروسي، الأمر الذي سمح لهم بمعرفة أدق التفاصيل عن قرارات قيادة الجيش الروسي، تتهم كذلك واشنطن الصين بالتجسس على كل شيء في الأراضي الأمريكية، وتخص بالتجسس الطلبة الصينيين وتعتبرهم أدوات للجيش الصيني وعيوناً للحزب الشيوعي الحاكم في الصين، وانتقل الهاجس من الجواسيس الصينيين إلى أوروبا حيث سجلت ألمانيا أكثر من 20 قضية تجسس ضد عملاء صينيين على الأراضي الألمانية خلال السنوات القليلة الماضية.
ولا يقتصر التجسس بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جانب، وروسيا والصين من جانب آخر على المناقشات العسكرية والقرارات السياسية، بل بات التجسس التجاري والعلمي يصاحب التجسس العسكري والسياسي، فكما هناك سباق للتسلح، وطائرات الجيل السادس والقاذفات الاستراتيجية، هناك السباق على سرقة الأفكار والأسرار حول الشركات التجارية والذكاء الاصطناعي، وهو ما جعل التجسس مهمة ومهنة عليها دور كبير في تقدم هذا الجانب أو ذاك.
شراء البطون الجائعة
هناك مقولة شهيرة للقائد الفرنسي الفذ نابليون بونابرت تقول «الجيش الجائع يبيع نفسه لمن يطعمه»، وانطلاقاً من هذا المعنى، واستغلالاً لوضع الاقتصاد الروسي بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وبشكل علني، وفي إعلان على تليجرام الذي يتابعه كل الروس، نشر وليم بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السابق في 23 مايو 2023 إعلاناً لتجنيد جواسيس روس بهدف تزويد المخابرات المركزية الأمريكية بمعلومات استخباراتية عن بلدهم، وقال الإعلان إنه يستهدف الأشخاص المعارضين لسياسات الرئيس فلاديمير بوتين، والمدهش في الأمر أن الإعلان لم يتوقف عند هذا الحد، بل نشر بالإضافة إلى الوعد بتحسين حياة من يتعاونون مع المخابرات الأمريكية، نشر طريقة التجسس عبر القيام باستخدام متصفح «تور» للوصول إلى «الإنترنت»، وكيفية تشفير الجواسيس لاتصالاتهم مع المخابرات الأمريكية، والأكثر من ذلك تحديد المخابرات الأمريكية المجالات لمن يريد أن يكون جاسوساً، حيث تركز الطلب الأمريكي على من يعملون خصوصاً في الاستخبارات والدبلوماسية والعلوم والتكنولوجيا الروسية سواء تلك التي تتعلق بالمجالات الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية والأمنية
يوماً بعد يوم تتطور أدوات وأهداف الجواسيس في العالم، ولعل الحرب الإسرائيلية الإيرانية كشفت عن الدور المحوري والأساليب الخادعة في شراء وتجنيد الجواسيس، وهو ما يدفع الدول والأمم لتحصين مجتمعاتها ضد التجسس، وهنا يمكن الاستفادة من بيت الشعر للشاعر السوري الكبير نزار قباني الذي قال «دخل الأعداء من عيوبي… وليس من حدودي»