الحرف العربي: بريق يلامس المشاعر

الشارقة: رضا السميحيين
لم يقتصر سحر الخط العربي على أبناء ثقافته، بل تجاوزت جاذبيته الحدود الجغرافية واللغوية، فاستوقف أنظار الفنانين في شتى بقاع العالم، الذين وجدوا فيه كنزاً من الأسرار البصرية وفلسفة جمالية عميقة، وأجمع الدارسون والمبدعون من مختلف الثقافات على أن الخط العربي بلغ من التفرد والابتكار ما لم يبلغه أي خط آخر، إذ تحول من أداة للمعرفة إلى فن بصري مدهش، تتداخل فيه الحروف وتتماوج فتولد لوحات تأسر البصر وتخاطب الوجدان، وتمنح النصوص بعداً جماليا يخطف الألباب.
في هذه اللوحة الخطية، التي تحمل الآية الكريمة: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾، سورة الفتح، الآية 28، جاءت بتوقيع الخطاط التركي سيد أحمد دبلر، وهو من الأسماء التي برزت في مدرسة الخط العثماني المعاصر، مستلهماً تقاليد الكبار ومحافظاً على صرامة القواعد وجمالية التكوين في آن واحد.
* تركيب
اعتمد الفنان في تنفيذ هذه اللوحة على خط الثلث الجلي، وهو من أعرق الخطوط العربية وأكثرها قدرة على التعبير عن النصوص المهيبة ومنها آيات القرآن الكريم، ويعتبر هذا الخط من من الخطوط العربية الصعبة والصارمة، لما يتطلبه من دقة في التوزيع وتوازن في التكوين، وقدرة على ضبط المسافات بين الحروف والكلمات مع الحفاظ على جماليات النص أو وضوحه.
وتبرز في اللوحة براعة الخطاط في التحكم بأبعاد الحروف وتوزيعها بانسيابية مذهلة، حيث تتداخل الحروف وتتقاطع في تناغم بصري مدروس، ويظهر ذلك جلياً في طريقة رسم الحروف الطويلة، مثل الألف واللام، الممتدة برشاقة لتشكل أعمدة بصرية توازن بين الكتل الخطية والمساحات البيضاء، بينما تلتف الحروف المنحنية حول بعضها بعضاً في حوار جمالي يضفي على النص حركة وحياة.
أمّا من الناحية التركيبية، فقد لجأ الخطاط إلى بناء النص داخل شكل بيضاوي متموج الأطراف، وهو اختيار ذكي يحسب للفنان ليكسر به الجمود الهندسي الصارم، ويخلق حركة بصرية تجعل العين تتنقل بسلاسة بين الكلمات، بالإضافة لتحقيق الانسجام بين النص والزخرفة المحيطة، لتبرز العناصر الجمالية مترابطة داخل منظومة واحدة.
* زخرفة
جاءت العناصر الزخرفية المحيطة بالآية، بتصميم نباتي كلاسيكي متبع في مدارس الزخرفة العثمانية، يلاحظ فيها المتأمل كيف تتشابك الأوراق والأزهار الصغيرة في مشهد جمالي متناغم يحيط بالنص، وجاءت ألوان الزخرفة متناسقة وهادئة بصرياً، مع تدرجات ألوان العاجي الفاتح، والأخضر، والذهبي، ليعزز هذا التدريج اللوني، قيمة وهيبة المعنى في الآية، وتضيف في ذات الوقت لمسة مميزة من الأناقة الشرقية.
أما الإطار الخارجي المذهّب، يوحي من خلال نقوشه النباتية الدقيقة وكأننا أمام مخطوطة محفوظة في متحف للفنون الإسلامية، وهذا ليس بعيداً عن الواقع إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الخلفية الفنية للخطاط، والذي يجمع بين الصرامة والدقة العثمانية والرقة الجمالية الشرقية، ليقدم لنا لوحة متكاملة تجمع بين القداسة والجمال.
* إضاءة
ولد الخطاط سيد أحمد دبلر سنة 1986، كانت بداياته في الاهتمام بفن الخط بتشجيع من جدّه خطاط المسجد النبوي الشريف الشيخ عبدالله رضا، ودرس على يد الخطاط طاهر كوجلو، ولازم دروس الثلث الجلي عند الخطاط حسين اوكسوز في سنة2000، أحرز أحقية الدراسة في كلية الفنون الجميلة في جامعة سلجوق بمدينة قونية، وواظب فيها على دروس الخطاط فاتح اوزقفا في خط الديواني والديواني الجلي، وفي أثناء وجوده في إسطنبول يحرص على الإفادة من أساتذة الخط بها وفي مقدمتهم: محمد أوزجاي، عثمان أوزجاي، وداود بكتاش، شارك في العديد من مسابقات الخط العربي الدولية وفاز فيها بعدة جوائز.