عبد الغني الحايس: تحليل اللعبة الترامبية ورد الفعل الإيراني

ترامب: أريد أن تكون إيران عظيمة مرة أخرى
خدع ترامب إيران بمفاوضات عبثية استهلاكية، ثم قامت إسرائيل بضربتها الكبيرة ضد إيران، إذ استطاعت الوصول إلى قادة عسكريين وعلماء نوويين، واستهدفت أهدافًا إيرانية في مباغتة شديدة وفي ظل حالة من الاطمئنان الإيراني، مع اختراق عملاء لإسرائيل استهدفوا مواقع مهمة في الداخل الإيراني، فتم انتهاك السيادة الإيرانية، وظهرت الدولة ضعيفة عاجزة. لكن المفاجأة كانت في الرد الإيراني، الذي أظهر أن لدى طهران القدرة على الرد والصمود في وجه تلك الهجمات.
وفي ظل تصريحات ترامب المضللة، وبعد أن منح إيران مهلة أسبوعين، أطلق هو الآخر ضربته الموجعة، وتباهى بأن هذه الضربات لا يستطيع تنفيذها سوى الجيش الأمريكي، بأسلحته المتقدمة. فاستيقظ العالم على استهداف المفاعلات النووية الإيرانية في أصفهان ونطنز وفوردو. وزعم ترامب بعدها أن البرنامج النووي الإيراني قد انتهى وتم تدميره بالكامل.
كان لا بد لإيران من الرد، فتداولت وسائل الإعلام أخبارًا عن إغلاق مضيق هرمز، وتوالت البيانات بعد اتخاذ إيران تلك الخطوة، محذرة من عواقبها الوخيمة. لكن طهران اتجهت إلى استهداف قاعدة “العديد” الأمريكية على الأراضي القطرية، وقد اختارتها لبُعدها النسبي عن المناطق المدنية، حيث جرى إخلاؤها مسبقًا، ووقف حركة الطيران فيها قبل تنفيذ الضربة، التي جاءت ردًا على استهداف المفاعلات النووية الإيرانية.
ما زالت ردود الأفعال تتوالى، تندد بما قامت به إيران من استهداف القاعدة العسكرية الأمريكية، والغريب أن معظم البيانات الرسمية أدانت الهجوم واعتبرته انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والأعراف الدولية وسيادة الدول.
لكن أولئك تناسوا أن ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية هو الانتهاك الحقيقي والصارخ لكل القيم والقوانين والأعراف، عندما استهدفت المفاعلات النووية الإيرانية الخاضعة للتفتيش من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمنضمة إلى معاهدة عدم انتشار السلاح النووي، على عكس إسرائيل التي لم تنضم إلى المعاهدة ولم تخضع منشآتها النووية لأي تفتيش.
هل نسي العالم استخدام الولايات المتحدة الدائم لحق النقض (الفيتو) لحماية إسرائيل، رغم الإجماع الدولي على وقف الحرب في غزة؟ إسرائيل ما زالت ترتكب المجازر وتمارس القتل وحرب الإبادة الجماعية، والحصار والتجويع بحق شعب أعزل، هدمت بيوته ومساجده ومدارسه وكنائسه ومستشفياته، ودُمّرت كل البنية التحتية في الأراضي الفلسطينية. فأين كان هذا المجتمع الدولي؟
لقد طاردت واشنطن قضاة المحكمة الجنائية الدولية لانحيازهم إلى الحق الفلسطيني. فأين العدالة والإنسانية والمنظمات التي يُفترض أنها تحمي تلك القيم؟
من حق إيران أن ترد، لكن يجب أن يعلم الجميع أن قاعدة “العديد” تُعد أرضًا أمريكية على بلد عربي شقيق، واستهدافها لا يعني الاعتداء على قطر، التي تم إخطارها مسبقًا، وجرى وقف حركة الطيران وتسريح العاملين بالقاعدة قبل الضربة، ما يعني وجود تنسيق مسبق، فلماذا يظن البعض أن إيران تستهدف قطر؟
ورغم استهداف المفاعلات النووية الإيرانية والإعلان عن تدمير البرنامج النووي، فإن إيران أكدت أنها نقلت ما تخشى عليه من تلك المفاعلات إلى مواقع آمنة، وقد علمت مسبقًا أن الحرب ضدها تستهدف بالأساس تلك المنشآت.
أصبحت الأمور الآن غير واضحة:
هل تتجه الولايات المتحدة إلى خوض حرب مباشرة مع إيران بعد استهداف قاعدتها العسكرية؟
أم كانت الضربة الإيرانية مجرد خطوة لحفظ ماء الوجه أمام الداخل والخارج؟
وما دامت الهجمات مستمرة، هل ستصر إيران على الصمود والمواجهة، وترفض العودة إلى طاولة المفاوضات؟
وإذا كانت واشنطن حقًا تريد إسقاط النظام، فلماذا لم تُستهدف القيادة العليا الإيرانية حتى الآن؟
هل فقدت إيران الدعم العربي بعد استهداف قاعدة “العديد”، في ضوء البيانات المتتالية من دول عربية تدين ما قامت به وتعتبره اعتداءً على قطر؟
كنت أتمنى ألا تتطور الأمور إلى هذا المنحنى، وأن تركز إيران ضرباتها على تل أبيب، لتحويلها إلى مكان لا يصلح للحياة. وأن تطيل أمد حرب الاستنزاف بينها وبين إسرائيل، لأنها السبيل الوحيد لإضعافها وخسارتها على كل الأصعدة. كما أن على إيران ألا تدخل في مناورات جانبية تستفز بها واشنطن، حتى تظل حافظة للدعم العربي إلى جانبها.
الجميع الآن يترقب تصريحات ترامب وخطواته التالية بعد استهداف قاعدته العسكرية، وسط ترقّب الديمقراطيين وتحفزهم. والساعات القادمة كفيلة بكشف الموقف الأمريكي القادم.
على الدول العربية أن تدرك أنها ليست بمنأى عن هذه اللعبة “الترامبية”. فمع استمرار التقزّم والتفتت والتشرذم العربي، سنكون جميعًا صيدًا سهلًا وقتما شاءت القوى الكبرى.
لقد تم الاعتداء على سوريا، وجرى اختراق أراضيها وضُربت منشآتها العسكرية، فماذا فعلتم؟
ضُربت العراق واتُّهمت زورًا بامتلاك نووي، وكذب بوش على العالم وعلى الشعب الأمريكي، ثم دخلت العراق وخفت صوتها وسط هيمنة الخراب، فأين كنتم؟
دُمّر قطاع غزة، ولم تسلم الضفة من إرهاب المستوطنين، وانتهكت سيادة لبنان، فأين أنتم؟
اليوم تُستهدف إيران، وغدًا لا نعلم من سيكون التالي. فهل تدركون الآن ما الذي يُخطط لنا؟
على الجميع أن يعلم أن المجتمع الدولي في أضعف حالاته، طالما أن راعيه يحمي يد البطش الإسرائيلي. فلا تنتظروا إنصافًا، ولا تطمعوا في نصر، فدويلةٌ زُرعت في قلب الشرق الأوسط ترسم ملامح “الشرق الأوسط الجديد”… للأسف الشديد.
أعلن أسفي وحسرتي على من ظنّ أن إيران تستهدف قطر أو مواطنًا قطريًا. وأنا شخصيًا أقف مع إيران إلى أقصى مدى، ولتدخل أمريكا الحرب، فحينها ستستيقظ كل الخلايا النائمة في أوروبا وتضرب ضربتها. ولا شك أن الجميع سيعاني، فالقوة لا تصنع سلامًا.
ينبغي أن يحتوي ترامب الموقف، ويوقف تلك الحرائق التي أشعلها، ويوقف الحرب على غزة فورًا.
وأن يعود إلى طاولة الحوار والدبلوماسية، مع احترام سيادة الدول وشرعيتها، وإحياء قيم احترام القانون الدولي، والالتزام بالقرارات الأممية، وإصلاح المنظمات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن، بما يضمن عدم استخدام الفيتو لحماية المعتدين.