محمد سعد عبد اللطيف: كفور العرب.. عندما تتوقف الآلات ويبدأ صراخ التاريخ!

محمد سعد عبد اللطيف: كفور العرب.. عندما تتوقف الآلات ويبدأ صراخ التاريخ!

في ليلة شبه قمرية، خرجت مع صديقٍ من أبناء قريتنا من منتفعي أرض “حوض العوضية”، قُبيل الفجر. لا لنروي ظمأ الأرض، بل لنركب ماكينة ماء مريضة، تدور في تيه، كأنها الأمة… تبحث عن نقطة حياة، في بلد النيل…!

كنت أظن أنني خرجت إلى الحقول، فإذا بي أدخل في مشهد من “كفر عسكر”، أو ربما من “كفور العرب” المعاصرة…
تتبدل الأسماء، لكن الموت هو ذاته، والخيبة واحدة، والكلاب تعوي.

وإذا بصديقي يضع خرطوم الماكينة في المروي، تجري في ذهني فجأة أحداث فيلم “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي.
تخيلت شخصية عبد الهادي، عزت العلايلي، يركض بين الغيطان… لكن أين محمد أبو سويلم؟ أين وجه محمود المليجي الجليل، وهو يجرجر جذوره في الأرض..؟
لقد استُبدلت البطولة الآن بمنشور فاخر: “كلمنا الباشمهندسة… وفتحت لنا الميه من دكانها”، وكأن فتح الحنفية صار فتح الفتوح…!

صرنا نتفاخر بإشارات من موظف، ووعود من مكتب خدمات…
أهذه قريتنا؟ أهذه الأمة؟ أم نحن فقط الكومبارس في مسرحية عنوانها “الخنوع في زمن الباشمهندسة”؟!

جلسنا عند دوّار الساقية… لا لنتسامر، بل لنحرس ماكينة الماء من السكتة القلبية.
كنت أحدث صديقي عن موت القيم، وهو يرمق الماكينة وكأنها نَفَس الأمة الأخير…
ثم همس لي فجأة:
ــ أمريكا تضرب الآن…
قلت:
ــ أين؟
قال:
ــ في العراق، في سوريا، في قلب الأمة…
لكن لا أحد يتحرك، لا صوت، لا نفس…
حتى في قريتنا، الكلاب فقط من تعوي.

في كفور العرب لا أحد يسمع شيئًا، الجميع مشغولون بالبقاء على قيد الخبز، أو بتصوير فيديوهات عن أزمة البصل.
في الزمن الذي تُهدم فيه بيوت غزة على رؤوس أطفالها، وتُقصف صنعاء في صمت، وتُصفّى بيروت بالتدريج…
نحن نحجز أدوارًا في صيدليات الإعلام الرسمي وننتظر “المهندسة” تفتح الخط الرئيسي للمياه.

قال لي صديقي، وهو ينظر إلى الأفق:
ــ تعرف يا صاحبي… المشكلة مش في إن محمد أبو سويلم اتسحب على الأرض،
المشكلة إنه مات، ومحدش حاول يرجعه.
قلت:
ــ بل المشكلة أننا الآن، نضحك على مشهد سحله، ونرفعه “ميمًا” على فيسبوك… ثم ننام.

حتى فلاحو العوضية، أهل الماء والنيل، صاروا يعيدون تركيب ماكينة ماء لا تعمل، كلما اندلعت حرب في فلسطين أو لبنان أو اليمن.
وكلما عوت الكلاب في القرية، نسأل:
ــ هل هذا نباح؟ أم صدى لانفجار بعيد…؟
ولا يهم، فالمهم ألا ينقطع الإنترنت.

رجعنا إلى قريتنا بعد تلك الرحلة، صليتُ الفجر حاضرًا، وختمتُ الصلاة وذهني مشغول بما أسرّه إليّ صديقي عن الضربة الأمريكية لإيران.
وفجأة، هتف صوت في رأسي:
“أخي جاوز الظالمون المدى… فحق الجهادُ وحقُ الفدا”
أنشودة عبد الوهاب وأم كلثوم تهتف في أعماقي، وكأنها تتمم بصوت فيروز:
“أصبح عندي الآن بندقيّة… إلى فلسطين خذوني معكم”

وما زال بعض الفلاحين العطشى يضحكون، لأن أحدهم تحدث مع “مهندسة الري”، و”فتحت الميه”، وكأن ذلك عطاء ملوكي، أو منّة من الباب العالي…!

مشهد عبثي، من رواية “كفر عسكر”، وأنا أعود من الحقل على دراجة نارية مع إشراقة يوم جديد، والكلاب تعوي حولنا…
مشهد يبدأ من أرض “حوض العوضية” العطشانة، ويمتد حتى جبال مدينة قم الإيرانية، والذهن مثقل بهموم أمة…
وأصوات القصف لا تفوقها إلا نباح الكلاب في قريتنا، جزء من “كفور العرب”، حيث لا نملك إلا أن نبتسم بسخرية، ونحن نغرق في الكوميديا السوداء.
كفور العرب لا تموت… هي فقط تتعفن ببطء..!