محمد سعد عبد اللطيف يكتب: أخي مستمتع.. وأنا في حالة استرخاء

محمد سعد عبد اللطيف يكتب: أخي مستمتع.. وأنا في حالة استرخاء

في بلادٍ يركب فيها المرشحُ الحصانَ على “تيك توك”، ويكتب برنامجه الانتخابي على ظهر “بوست” ممول، بينما الفلاحُ يشقّ الأرض بظفره، باحثًا عن قطرة ماء، يصبح الصمتُ خيانة، والضحكُ على الناخب جريمة مكتملة الأركان.
في تلبانة، لا نطلب ترف السدود، ولا رفاهية المشروعات القومية، فقط نسأل عن “نهاية الترعة”… تلك التي تكتب حكاية عطشنا كل موسم، وتفضح من يتحدثون باسمنا وهم لا يعرفون الفرق بين “الزهايرة” و”الجبادة العليا”، ولا كيف يسير الماء في شرايين الأرض.
على شواطئ الغرام، وفي زوايا منصات التواصل الاجتماعي، وفي حفلات العرس والعزاء، يدور مرشحو قريتنا بين الفُسحة والفرجة، تارة ببدلة ضيقة، وتارة بكوفية ناعمة… يلتقطون الصور في وضعية «البطة»، ويعدوننا بمستقبل أخضر، بينما أرضنا تتلوى عطشًا، وتنهشها الشراقي من كل جانب.
يا لسخرية القدر، أن تقع قريتنا “تلبانة” ـ تلك الحبيسة بين الحلم والانكسار ـ في نهاية الترع، مقسّمة مثل شطر بيت شعري مهمل؛ طرفها يتبع نهاية ترعة “الجبادة العليا” من ناحية المنصورة، وطرفها الآخر نهاية ترعة “جالية” التي تبدأ من فتحة “سلكا” وتمرّ بقرى وبحيرات ومزارع ومساحات وانحناءات بيروقراطية، تعوق وصول المياه إلى نهاياتها، كما هو الحال في ترعة “الزهايرة” من ناحية السنبلاوين.
كأننا نعيش فصلًا جديدًا من رواية “الأرض”، تلك القصة التي جسّدت مأساة الفلاح المصري في قلب الدقهلية. لكن للأسف، مات “محمد أبو سويلم”، وانتهت حكاية “عبد الهادي”، ولم يتبقَ لنا سوى “محمد أفندي” الذي يكتب العرائض بمداد الصبر، بينما شقيقه لا يزال يلهث من رائحة “طعمية البندر”، حافي القدمين، يمشي خلف الحمار الذي حمل “الأفندي” إلى المدينة لتقديم الشكوى.
هذه ليست أزمة جديدة، فقد اندلعت مشادة ذات يوم تحت قبة البرلمان، بين النائب الراحل خالد حماد، ابن تلبانة، ووزير الري آنذاك عصام راضي، حين طالب النائب بدمج وزارتي الري والزراعة لتنسيق الجهود. قوبل طلبه بالتعنت، وتم “معاقبة” القرية بالإهمال. وعندما زار الوزير مديرية الري بالدقهلية، وكان في ذات الوقت نائبًا عن الدائرة، حضر عدد من أهالي القرية يحملون شكواهم، فقوبلوا بكلام لا يليق، لأن المهندس خالد تجرأ وقال ما لا يُقال!
صدق الرجل حين نادى بالتنسيق، واليوم نرى بعين اليقين أن غياب هذا التنسيق أدى إلى خراب الزرع وانكسار الفلاح. كانت مهنة “مهندس الري” يومًا من أنبل المهن، حين كانت مصر تعرف هويتها الزراعية، كما جسّدها أحمد مظهر في فيلم “دعاء الكروان”، عن قصة الأديب الكبير طه حسين، حين كان الحقل حياة، والماء بركة.
أما اليوم، فالفلاح يبحث عن قطرة ماء، كما يبحث المتصوف عن لحظة تجلٍّ في زمن التبلّد. واليوم، يتزاحم المشهد بأشخاص أعلنوا ترشحهم دون أن يعرفوا اسم ترعة واحدة، أو اتجاه مجراها، أو حتى ما تعنيه كلمة “السُّيول” أو “الشُقاف”. كل ما يعرفونه هو شكل الكادر الانتخابي على فيسبوك، وعبارات جوفاء من قبيل: “بكل الحب ندعمك”!
يا سادة، تلبانة لا تحتاج زفة انتخابية، بل قطرة ماء. لا تحتاج صورًا في العزاء، بل رجالًا يعرفون الحياء. تلبانة لا تصوّت لمن يرقص في الزفة، بل لمن يحمل همّ الزرع، والترع، والمحراث. نعم، نحن في عطشٍ وظمأ… لكننا لسنا مغيبين.
فليترشّح من يشاء، ولكن من لا يعرف أسماء الترع التي تسقي القرية، لا يستحق أن يسقي ضمائرنا وعودًا زائفة…،!!